اعتدنا منذ فترة أن نبدأ مقالنا بسيناريو قصير يضع بشكل أو بآخر موضوعنا ضمن قالب محدد يوضح بعض الشىء تفاصيله وأبعاده. ونسمع بكثرة في زمننا هذا عن أشخاص يعانون من مشاكل صحية ويتنقلون من طبيب إلى آخر، توصف لهم العديد من الأدوية التي يتبين في نهاية المطاف أنها لا تناسبهم. فالبعض يعاني من آثار جانبية حادة وخطيرة، وآخرون لا يتجاوبون مع العلاج، ومنهم من يضطر طبيبهم إلى أن يزيد لهم الجرعات أو ينقصها، كُلٌّ بحسب حاله. ومن هنا يتساءل كثيرون: عندما يكون المرض واحدًا، وحِدَّتُه واحدة، لِمَ تختلف ردات فعل الأجسام على الدواء الذي أعطي بجرعة محددة وأوقات محددة من شخص إلى آخر؟!
حسنًا، هنا يبدأ مقالنا لهذا العدد. ولكن، لا بد من التطرق إلى مسألتين أساسيتين لفهم هذه المعادلة.
أولًا: إن أساس عمل أجسامنا يعتمد على البروتينات والإنزيمات التي تصنعها خلايانا والتي تربط هذه الخلايا بعضها ببعض وتتحكم بكل تفاصيل عمل الخلايا نفسها. وهذه البروتينات -ضمنها الأنزيمات- تفرزها الخلية بالاعتماد على مرجع يحدد مزايا وخصائص كل بروتين، وهذا المرجع هو الجينات “DNA” علمًا أن عمل هذه البروتينات ومقدار إفرازها وكيفيته يتأثر أيضًا بالعوامل الخارجية المحيطة، كالعمر والجنس وأسلوب المعيشة من طعام وتعرّض للملوثات وعوامل التوتر اليومية وغير ذلك… ولذلك فإن أيّ خلل يصيب هذه الجينات، ينتج عنه خلل في هذه البروتينات، وبالتالي خلل في عمل الخلية وترابطها بتوازن مع بقايا الخلايا ليؤدي في النهاية إلى خلل في توازن وعمل الجسد ككل، وبالتالي كل هذا تزيد حدته أو تنقص بحسب أسلوب المعيشة المعتمد. وعندما يكون المرض وراثيًا تتناقله الأجيال تكون المشكلة الجينية موجودة في كل خلايا الجسم إجمالًا، لا في واحدة دون أخرى، مما يقلص فرص العلاج المعروفة في هذا الزمن ويحدّها إلى محاولة علاج الأعراض الناجمة عن المرض. إذًا بشكل عام الأطباء يسعون إلى علاج البروتينات وطريقة عملها ولا يعدلون بالجينات نفسها شيئًا. مثال ذلك أن الشخص الذي يكون عنده الكولستيرول مرتفعًا، يسعون إلى إعطائه أدوية تخفّف من امتصاص الكوليستيرول من الطعام -تمنع الأنزيمات التي تمتصه من العمل- أو إفرازه في الجسم أو تسرع من عملية تفككه -تساعد الأنزيمات التي تفككه على العمل-.
ثانيًا: يقال باستمرار إن كل إنسان هو فريد ومختلف عن الآخرين. نعم هذا صحيح بيولوجيًا، إذ وبالرغم من أننا نشترك في كل الجينات الأساسية والـDNA إلا أن الجين الواحد له عدة متغيرات أو أشكال تعرف باسم alleles. فإن شئتم أن نعتبر أن الجين هو قصة ليلى والذئب مثلًا، فكل شخص يروي القصة بطريقته الخاصة وبتغيير طفيف إلا أن القصة تبقى معروفة، وبالرغم من تعدد الروايات، باسم قصة ليلى والذئب. حسنًا، هكذا أيضًا يختلف أحيانًا من شخص إلى آخر الجين المسؤول عن بروتين معين، فهذا التغير الطفيف الذي لا يغيره تمامًا -ولا يسبب تغيرًا مرضيًا- يؤثر على تفاعل الجسم مع الأدوية، فنرى أن زيدًا يتجاوب بشكل ممتاز مع الدواء A، أما عمر فلا يجديه أي نفع وبالمقابل يسبب لسعيد الكثير من العوارض الجانبية.
بطبيعة الحال، يتم تجربة الدواء على كثير من المرضى قبل نشره في الأسواق العالمية، ولكن نسمع كثيرًا بأن بعض الأدوية، والتي كانت مشهورة، تم سحبها فجأة من السوق لكثرة ما نتج عنها عوارض جانبية قد تؤدي إلى الموت في بعض الأحيان. فما السبب؟!
في كثير من الأحيان، عندما يدخل دواء إلى جسمنا، تتدخل عدة أنزيمات لتحويله إلى مواد فعالة تعمل على علاج المشكلة بداية، ومن ثم يأتي دور أنزيمات أخرى تعمل على تفكيك هذه المادة وتخليص جسمنا منها كي لا يطول بقاؤها في الجسم فتؤذيه بعد ذلك.
إن الاختلاف في المتغيرات الجينية allele بين شخص وآخر قد يسبّب في بعض الأحيان تغيرًا في كمية تصنيع الأنزيمات. فمثلًا إذا اعتبرنا أن عمر عنده تغير طفيف في الجين الذي يتسَبَّب عنه عن إفراز الأنزيم الذي يفكك الدواء A كي يتخلص منه الجسم بعد الاستعمال، وأن هذا التغير أدى إلى تصنيع هذا الأنزيم بكميات هائلة أو إلى جعل هذا الأنزيم يعمل بسرعة وقدرة هائلة فإن كمية الدواء التي وصفها الطبيب لزيد والتي تنفع الناس عادة لن تساعد فعلًا عمر لأن هذه الأنزيمات التي تفكك هذا الدواء تخلص جسمه منه قبل أن يتمكن الدواء من إعطائه المفعول المرغوب وعلاج مرضه، فلذلك يحتاج إلى جرعة أكبر من غيره. أما سعيد فلنعتبر أن هذه الأنزيمات عنده تفرز بشكل قليل جدًا أو أن عملها بطيء جدًا وقليل الفعالية، عندها سوف يبقى الدواء في جسده لوقت طويل ويؤثر ضررًا على بروتينات الجسم وينتج عنه الحالة المعروفة بالتسمم أو الأعراض الجانبية للدواء. فما الحل؟!
هنا توصل العلماء وخاصة علماء الصيدلة الجينية إلى فكرة جعل العلاج شخصيًا، يختلف من شخص إلى آخر، وليس ذلك إلا لسبب اختلاف طريقة العمل الدقيق لجسد كل إنسان عن الآخر. فبدؤوا باعتماد نظام التحليل لكل الجينات المتعلقة بالمرض والدواء المرجو استخدامه حتى تتشكل عندهم صورة واضحة لحالة المريض تسمح لهم بوصف الدواء المناسب بالكمية المناسبة وبالأوقات المناسبة للمريض المناسب وبالتالي توفر عليهم مرحلة التوصل لتفاصيل المرض وتجربة مختلف الأدوية للتوصل إلى الدواء الأنسب. ليس هذا فحسب، بل إن العديد من الدراسات نشأت للبدء بالبحث عن مواد يفرزها الجسم في الدم أو في الإفرازات كالبول والتي قد تسمح بالاعتماد على كمية فرزها تجديد المرحلة المرضية وتشخيص المرض بشكل أفضل، وهذا يوفر في المستقبل العديد من التحاليل المكلفة والمؤلمة. فعلى سبيل المثال قد يضطر العديد من مرضى الجهاز العصبي إلى سحب كمية من السائل الموجود في النخاع الشوكي لتحليله والحصول على معلومات تسمح بتشخيص المرض، وهي عملية مؤلمة ومزعجة للمريض. أما الآن فالتوجه نحو إيجاد فحص بديل يعتمد على الحصول على عينة من البول وتحليلها للتمكن من تحديد مرحلة المرض وتشخيصه. ولكن هذا يتطلب جهودًا كبيرة من العلماء للتمكن من اكتشاف المواد -البروتينات- التي يصنعها الجسم في حالة المرض والتي يتم إفرازها في البول أو الدم أو نحو ذلك ولمعرفة الكميات المحددة التي تختلف باختلاف المرحلة المرضية. ويحتاجون لذلك أن يراقبوا أعدادًا هائلة من المرضى كل على حدة ويراقبوا التغيرات بين فرد وآخر للتوصل إلى اكتشافات مماثلة…
وفي مؤسسات أخرى بدأ اعتماد نظام العلاج الشخصي لمساعدة مرضى السرطان، إذ لا يقومون بدراسة الخصائص الجينية للمريض فحسب، بل بدراسة الخصائص الجينية للخلايا السرطانية التي تؤذيه أيضًا ليتم تحديد نوع العلاج المناسب لكل مريض على حدة. فتسحب منه خزعة من الورم يتم زرع أجزاء منها لمدة أسبوعين، يدرس فيها الطبيب مع مركز الأبحاث تأثير مختلف أنواع الأدوية المخصصة لهذا النوع من السرطانات مثلًا على هذه الخلايا السرطانية وكيفية تجاوبها، إضافة إلى نوعية بروتينات وجينات المريض لمعرفة العلاج الأمثل والأسرع والأكثر فعالية، وبعدها ينتقلون إلى المرحلة العلاجية بعد البحث الدقيق بوضعه.
إن الآمال في مجال الأبحاث كبيرة، والطموحات للتوصل إلى نتائج مبهرة وفعالة قائمة منذ زمن بعيد، إلا أن هذه الأبحاث دائمًا تأخذ وقتًا طويلًا لتشكل نظامًا متكاملًا قيد التنفيذ والتطبيق على أرض الواقع، فإن كانت هذه الأنظمة قد بدأت تطبق في بعض أقطار الأرض إلا أننا سوف ننتظر سنين عديدة قبل توفرها في بلادنا هذه، ولكن اطلاعنا وانفتاح أطبائنا على كل جديد في هذا المجال يسهّل المسيرة ويقرب البعيد. وجميل أن نتوصل أخيرًا إلى معرفة أحوال أجسامنا قبل المضي في علاجات كيميائية كثيرًا ما تؤذينا بدل أن تحمينا. وها نحن بانتظار الزمن الذي يصبح فيه تشخيص المرض في بلادنا شخصيًا، يختص به مريض دون آخر.
وفي الختام نحن نؤمن بأن الله خالق الأسباب والمسبَّبات فلا يخلق الشفاء إلا الله، وإن اختلاف المخلوقات دليل على وجود الخالق ولا يكون إلا ما شاء الله.█