الحمد لله الذي من علينا بنعمة الإيمان ورحمنا ببعثة خير الأنام سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.

إن الإسلام دين جامع لكل معاني الكمال في كل جوانب الحياة، وناظم لكل أفراد المجتمع رئيسهم ومرؤوسهم، أبيضهم وأسودهم، نخبتهم وعامتهم، صغيرهم وكبيرهم، ذكرهم وأنثاهم، على اختلاف طبائعهم ومشاعرهم وأذواقهم، فأنزلهم منازلهم وراعى خصائصهم، وجعل الأولوية والفضل للتقوى، قال تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)﴾ سورة الحجرات.

والمراد بالتقوى القيام بالواجبات واجتناب المحرمات، فالتقوى هي الركن الركين لإعمار الدنيا والآخرة على أسس متينة.

ومن عظمة الإسلام أن الأفضلية فيه تقوم على التقوى أي مدى التزام المرء بمخافة الله بأداء ما افترض واجتناب ما حرم.

وكنا قد تحدثنا فيما مضى عن التقوى والرحمة التي دعا إليها الإسلام، ونود هنا أن نكرر مؤكدين على عظمة الإسلام في دعوته إلى التراحم وحثه على التعامل بالحسنى والأخلاق الحسنة، من خلال هذا الدين الجامع لكل معاني الكمال وبذلك جاء الأنبياء جميعًا عليهم الصلاة والسلام.

إن الإسلام دين عظيم ومن مظاهر عظمته دعوته إلى رعاية الأبناء الرعاية القويمة السديدة، فأولادنا أمانة في أعناقنا فلا يجوز لنا إهمالهم بل يجب علينا رعايتهم وتعليمهم منذ الصغر، يقول الله تعالى في القرءان الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)﴾ سورة التحريم، قال سيدنا علي بن أبي طالب عليه السلام في تفسير هذه الآية كما رواه الحاكم: “علموا أنفسكم وأهليكم الخير” أي أمور الدين، فمن تعلم لنفسه ضروريات علم الدين وعلم أهله ذلك فقد حفظ نفسه وأهله من نار جهنم ومن لم يفعل فقد أهلك نفسه وأهله.

علينا تحصين أولادنا بتعليمهم أمور الدين والتنبه إلى الأماكن التي نضعهم فيها، وبين أي مجتمعات، وفي أي مدارس، وبين أيدي أي معلمين، فالولد كالإناء الفارغ قابل لكل ما تملؤه به.

وكم من أناس فرطوا في مسؤوليتهم وأضاعوا أماناتهم وأهملوا أولادهم فاقتصروا على إطعامهم وكسوتهم وهذا غير كافٍ فإن الله تعالى فرض علينا شيئًا زائدًا على الأكل والشرب في حق الولد وهو أن نعلمه ما ينفعه لآخرته قبل دنياه من أمور الدين الضرورية في العقيدة والأحكام، وأن نأمره بأشياء بعد بلوغ سبع سنين لينشأ على الخيرات فتكون حصنًا له لما بعد البلوغ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين الحديث، رواه أبو داود بإسناد حسن.

اتقوا الله أحبابنا في أولادكم واعتنوا بهم من أول نشأتهم، فقد أردف النبي عليه الصلاة والسلام ابن عباس وكان غلامًا وراء ظهره ثم قال له: “يا غلام إنى أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشىءٍ لم ينفعوك إلا بشىءٍ قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك بشىءٍ لم يضروك إلا بشىءٍ قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف” رواه الترمذي.

وقوله عليه الصلاة والسلام: “احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك فسره بعض العلماء فقال: احفظ أوامر الله تعالى في الرخاء يحفظك الله تعالى عند الشدة، احفظ أوامر الله تعالى في حال صحتك يحفظك الله عز وجل عند الضعف من كيد الشيطان وينجيك منه.

لقد كان حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم نعم المؤدب وكان رحيمًا عطوفًا، ولنقف هنا مع تعامله صلى الله عليه وسلم مع فتيات من الأنصار حين مر ذات يوم ببعض أحياء الأنصار فلقينه وهن يضربن بالدف وينشدن:

نحن جوارٍ من بني النجار

 

يا حبذا محمد من جار

فقال: “والله إني لأحبكن“، ولم يزجرهن ولم يقل لهن أسكتن فصوت المرأة عورة، بل أقسم بالله العظيم معبرًا عن حبه لهن، وهذا يدل على أن صوت المرأة ليس عورة، وفيه إعلاء لشأن المرأة المؤمنة التي أمست في عصرنا هذا مظلومة مهيضة الجناح باسم الدين، والدين من ذلك براء.

ومن أروع مواقفه صلى الله عليه وسلم مع الأطفال أنه ركب حفيده الحسين بن علي عليهما السلام على ظهره وهو في سجوده في الصلاة فأطال السجود لأجله ولم يرفع فورًا من السجود فيقع عن ظهره ويتأذى.

هذه أمثلة من تراثنا المنير، ولكننا نشهد في عصرنا أمثلة أخرى لا تعبر عن حقيقة الدين ولا سماحته ولا دعوته إلى التراحم والتعاطف بين المؤمنين، حيث نرى القسوة والغلظة وسوء الأخلاق، ونرى أن كثيرًا ممن تصدروا للفتوى أو زعموا العمل في مجال الدعوة هم من أبعد الناس عن مفهوم التراحم والموعظة الحسنة  والحكمة في القول والعمل، وهم بغلظتهم وسوء أخلاقهم ينفرون الناس ويبعدونهم عن الالتزام بأحكام الدين.

ومن هؤلاء من جنح نحو الغلو والتطرف وتستر بستار الدين، والحق أن التطرف غريب عن الإسلام وظاهرة خطيرة شوهت وتشوه ديننا الحنيف في أذهان الكثيرين، ونحن نعلم أن هناك من يدفع عن سابق تصور وتصميم باتجاه تشويه حقيقة الدين الإسلامي. والحل يكون بالعودة إلى حقيقة الدين وعظمته ومبادئه الراقية، والتمسك بالمنهج الإسلامي المعتدل.

إن الإسلام حمل للناس معاني التراحم والتعاطف ومنهج الوسطية والاعتدال، وملأ الأرض قسطًا وعدلًا وذلك عندما تمسك به الأوائل أسلوب حياة ودستور تعامل ومسلكًا أخلاقيًا وعقيدة حقة تجمع العقول والقلوب والسواعد.

وما أحوجنا إلى فهم حقيقة الإسلام وتطبيقه فهو دعوة إلى الرقي في الأخلاق، والسمو بالنفس نحو المعالي، وهو نهج حياة وتراحم وعدل واعتدال.

قال الله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَءاتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)﴾ سورة الحج.

اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من المتراحمين المتكاتفين المتعاونين على الخير، إنك على كل شئ قدير.█