“يحكى أن” كلمتان اثنتان، بمجرد سماعهما يتبادر إلى أذهاننا قصص الطفولة، قصة أمير وأميرة، في بلاد نائية تزقزق فيها الطيور، قصة فتاة تلعب بألعابها، إلى غير ذلك من قصص رواها لنا آباؤنا في صغرنا لننام بهدوء. 

لكني اليوم سأخبركم القصة التي مع الأسف سأرويها لأولادي فاقرأوا وتمعنوا علكم تمنعونني من قراءتها مرة أخرى. 

يحكى أنه في بلاد غير بعيدة بل هي محيطة بنا وربما نعيش فيها، ولد لم يلعب بألعابه بل بـ”فراغات” الرصاص المتناثر في شوارع مدينته. يحكى أنه لم يذق طعم النوم ولم يغمض له جفن منذ أكثر من عشرين يومًا. يحكى أنه لم يعد يسمع سوى صوت معدته الفارغة حتى أصوات القذائف اعتادها إذ صارت جزءًا من حياته اليومية، لكن ما لم يعتده هو صوت معدته التي لم تدخلها كسرة خبز منذ.. لم يعد الوقت مهمًا بالنسبة له المهم عنده أن يأكل.

ويحكى أنه كانت هناك فتاة بعيون جميلة براقة، لكنها غارت في تَيْنِكَ التجويفتين فلا يوجد لحم بين الجلد والعظم ليمسكهما. يحكى أنها سمعت بقول الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: “انشروا القمح على قمم الجبال حتى لا يقال جاع طير في بلاد المسلمين” لكنها لم تر القمح حتى في مطبخ بيتها. يحكى أن أنفها اعتاد رائحة العفونة والقاذورات والجثث بعد أن نسي رائحة الياسمينة المزروعة في “أرض الديار” في منزلهم.

يحكى أنه كان هذا الولد وهذه الفتاة يعيشان في بلاد عربية، انتشر فيها التطرف والإرهاب المذموم الأسود باسم الحرية، تغلغل فيها أشخاص يدعون الإسلام، والإسلام منهم براء. يحكى أنه حصلوا على ورقة سميت بالهوية العربية لكنها بقيت على الأوراق، كما بقيت لغتنا وحضارتنا وتاريخنا في كتب ولم تترجم واقعًا ملموسًا.

هذا للأسف الشديد غالب واقع حالنا هذه الأيام، نتفاخر في خطاباتنا بحضارتنا العريقة وتاريخنا المشرق ولغتنا العظيمة، لكن أين نحن منها. حضارتنا دفنت تحت التراب فصارت أطلالًا نقف عليها في كل موقف ومناسبة، تاريخنا علاه الغبار في مكتبات إما أحرقت وإما أغلقت لعدم التمويل، لغتنا أصبحت لهجات متكسرة متوزعة بين الأقطار. نتفاخر بأمجاد وملوك وسلاطين عدلوا في حكمهم، نذكرهم في رواياتنا، لكن غالبنا لم يتشبه بهم. نتابع سيرهم في مسلسلات رمضانية فيتولد عندنا شعور الفخر والاعتزاز، ولم نأبه لأشخاص يبعدون عنا بضع كيلومترات يموتون جوعًا وعطشًا ومرضًا.

كل ما أقوله لا ولن يأبه له هؤلاء الأطفال، إنهم لا يأبهون من السبب في وضعهم ولا يأبهون من سيحل لهم مشكلتهم ولا يأبهون لمصالح الدول المسماة “عظمى” هم فقط يعدون الساعات والدقائق والثواني بانتظار اللحظة التي سيدخل فيها إلى أجوافهم كسرة الخبز الغالية. حقًا إنه لمشهد مؤلم.

صدقوني، سيحكى عنا ذات يوم أننا الأمة التي تركت أطفالها جياعًا، ومات الطفل في أيامها لأنه لم يجد حليبًا يشربه، سيحكى عنا ذات يوم أننا الأمة الصامتة، سيحكى عنا ذات يوم أننا قوم ضربنا أرقامًا قياسية في الخطابات والشعارات والاستنكارات والإعراب عن قلقنا تجاه ما يحصل في دولنا، لكننا لم نحرك ساكنًا.

هذا هو حاضرنا والله أعلم هذا ما سيسطره التاريخ في صفحاتنا.█