تعتبر تربية الأولاد من أصعب المهام على الأهل فهي تتطلب منهم جهدًا وأسلوبًا مناسبين لترسيخ المفاهيم الصحيحة في الأولاد بحيث يصلون إلى عمـرٍ يميزون بأنفسهم بين الصواب والخطأ.
كذلك تكمن المصاعب في كيفية التعامل مع طباعهم وسلوكياتهم المختلفة والتواصل معهم من أجل احتوائهم وإرشادهم في كل الأحوال. ومع بعد بعض الناس في مجتمعنا عن التربية الإسلامية المنهجية أخذوا يتبعون كل صيحة في التربية تأتي من هنا أو هناك، ويلتقطون جزئيات متناثرة، ربما كانت مناسبة في حالات ولكنها تحتاج إلى دراسة شاملة إذا ما أردنا جعلها منهجًا مستقلًا، فسمعنا عن التربية بالترفيه والتربية الاستقلالية وغيرها الكثير، إلا أننا نبقى أحوج ما نكون إلى نوع من التربية يركز على الإنسان بحد ذاته وعلاقته وتواصله مع من حوله وهذا ليس بغريب عن ديننا الحنيف، كذلك لا تخفى علينا معاملته صلى الله عليه وسلم لأبنائه وأحفاده فهو خير مربٍ ومعلم.
وفي خضم مجتمعنا بمختلف ألوانه، تتأرجح تصرفات الكثير من الأهل بين نقيضين: القسوة والدلال. فمن جهة يقسو البعض على الأبناء بسبب أخطائهم دون أي حوار معهم أو شرح سبب هذه القسوة، الأمر الذي قد يدفع بالأولاد إلى النفور والقيام بردات فعل عكسية يكون هدفها إطلاق صرخات استغاثة بغية طلب الحنان والتواصل. ومن جهةٍ أخرى يلجأ بعض الأهل بسبب حبهم الشديد إلى الدلال المفرط فيتخبط الأولاد إذ إنهم يحتاجون للتوجيه. ومن هذا المنطلق اقترح بعض الباحثين في مجال التربية برنامج التربية بالحب إذ اعتبروه حلًا وسطًا بين الإفراط في القسوة والتفريط عبر الدلال الزائد، هذه الطريقة تجعل الحب قاعدة أساسية في التربية يعتمد عليها من أجل إرساء حوارٍ متوازنٍ مع الأولاد يسهل معه معالجة الكثير من الأخطاء. فانطلاقًا من حاجة الطفل للحب وضعت أسس التربية بالحب التي تتعدى مجرد الإحساس وتعتمد على إيصال الكثير من الرسائل.
حاجة الطفل للحب
يحتاج الطفل غالبًا للحب والعاطفة خاصة في مراحل نموه الأولى، فإذا نقصه ذلك قد يلجأ إلى سلوكٍ سيئ يعبر فيه عن حاجته للحب والقبول عن طريق لفت نظر أمه وأبيه على اعتبار أنه لا يحسن التصريح بطلب ما يحتاجه في عمر صغير، لهذا السبب نرى كثرة المشاكل السلوكية وصولًا إلى حد الانحراف أحيانًا عند أطفال الشوارع أكثر من وجودها عند الأطفال الذين يتربون في ظل عائلة ولو لم يكن مع أمه وأبيه.
ما هي التربية بالحب؟
ليست التربية بالحب عبارة فقط عن التعبير بالقبلات والاحتضان والضم وما شابه رغم أهميتها، فهذه المظاهر لا تحتاج لمقال للتكلم عنها. إنها أيضًا القدرة على التواصل مع الآخر بشكل يشعره بصدق المحبة دون ازدراء. فإذًا الشعور وحده لا يكفي بل ينبغي ترجمته على شكل مهارات تحقق الحوار والتواصل بصورة إيجابية وتعزيز الاحترام المتبادل وتعطي ضوابط واضحة يفهمها الطفل ويسهل عليه اتباعها. كذلك تعتمد على التركيز على تشجيع السلوك الجيد الذي يرغب الوالد بظهوره عند طفله بدل التركيز فقط على معاقبة السلوك المذموم إذا ما صدر منه.
الحب … مع الكثير من الرسائل
في بعض الحالات، يركز الأهل على السلوك السيئ بحد ذاته ويسعون لتعديله أو قمعه أحيانًا، وكلما تعاملوا بقسوة ابتعدوا عن إعطاء العاطفة والحب. لنعطي مثلًا شائعًا في علاقة الأم بابنها: تتمنى الأم أن ترى طفلها يدرس وينجح في المدرسة، وأن تراه يساعدها في ترتيب المنزل ولكن عندما يخطئ كأن يغضب أو يتشاجر مع إخوانه تشعر بالاستفزاز والانزعاج الشديد وقد تنفعل لأنها قد يراودها شعور أنها فشلت في التربية وأن ابنها غير مؤدب. وفي بعض الأحيان تقوم بعقابه أو ضربه أو استعمال كلمات سيئة، لا ننفي أن تأخذ القرار هي وأن يكون هناك مُسلّمات غير قابلة للنقاش ولكن موضوعنا هو طريقة إيصالها له مع حب، فمثلًا بدل أن تقول له: “اذهب البس البيجاما وإلا…” يمكنها أن تقول: “تريد أن تلبس البيجاما الآن أو بعد خمس دقائق؟ أخبرني لأعرف متى أساعدك”. هذه العبارة تتضمن العديد من الرسائل المباشرة وغير المباشرة التي لا تحملها العبارة الأولى لذلك قد تكون أجدى، هذه الرسائل هي:
- وضع الطفل أمام أمر واقع غير قابل للنقاش وهو تغيير الملابس أو بالإجمال الطلب الذي يريده الوالد. ومن هنا يظهر جليًا كيف أن التربية بالحب لا تعني التساهل والتفريط في دور الوالدين ولكنها فقط تعنى بأسلوب إيصال ما يريدانه.
- إظهار أن الوالد بجانب الطفل عاطفيًا وأنه مستعد لمساعدته وهذا أمر مهم جدًا لأنه في عمر معين يحتاج لمن يكون بجانبه ولو سندًا عاطفيًا ليس أكثر.
- ترك نافذة للطفل ليختار، وهنا يكمن ذكاء الوالد وحنكته إذ إنه بحسب تجاوب الطفل معه وبحسب سلوكه يعمل على توسيع أو تضييع هذه النافذة في المستقبل. وهذه رسالة يفهمها الطفل وتؤثر بالتالي على سلوكه الذي بدوره يدفع الأهل إلى التعديل في نسبة وجوده في قرارات الطفل وصولًا إلى تركه يأخذ قراراته بنفسه مع تحميله مسؤوليتها ابتداءً من عمرٍ معينٍ.
يظهر جليًا كيف أن التربية بالحب تهدف إلى اكتساب الطفل لمهارات الحوار والإقناع والتمييز بين الصواب والخطأ بناءً على قواعد أساسية تزرع فيه من صغره. فعندما تأتي مرحلة البلوغ تبدأ عملية التطبيق العملي وتصبح لديه قدرة أكبر للاعتماد على النفس ويكون أنضج في تحمل المسؤولية وهذا يوفر على الأهل التعب والقلق.
بعض الأمهات يوفرن لأولادهن كل شىء دون تعب وهذا يجعل الطفل مُتَلَقِّيًا ومَعتَمِدًا على الآخرين، فيكبر دون أن يستطيع الاعتماد على نفسه حتى في أبسط الأمور إذ ليس لديه القدرة على أن يقرر لأنه تربى هكذا.
إذًا نختصر ما سبق عن التربية بالحب بالنقاط التالية:
- وجود التناغم والاحترام في العلاقة بين الأهل والأطفال.
- الذكاء في معرفة متى نتكلم، ومتى وكيف نصغي.
- التركيز على النظر للطفل كإنسان عنده أحاسيس، ومن هنا ينبغي على الأهل أن ينتقلوا من الشكوى أن أطفالهم مزعجون ومتعبون، ليبحثوا عن السبيل الأنجع للتعامل معهم.
- الحب ليس التساهل مع الطفل، بل الحب هو ألا يهينه والداه إذا أخطأ بل يبلغانه بأنهما غاضبان من المشكلة مع العمل على معالجتها. الحب إذًا هو أن تكون حازمًا ومتعاونًا عطوفًا في الوقت نفسه.
التربية بالحب هي أسلوب حياة لا يقتصر فقط على تربية الأهل للأولاد بل يتعداه إلى تعامل المعلمين في المدرسة مع تلاميذهم نظرًا لتأثيرهم الكبير على الأولاد. كذلك يمكننا أن نقول إن هذا المنهج يصلح أن يكون أسلوب حياة في علاقات الإنسان مع المحيطين به.█