الحمد لله رب العالمين، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، وصلوات الله البَرّ الرحيم والملائكة المقربين، على سيدنا محمد أشرف المرسلين، وعلى جميع إخوانه الأنبياء والمرسلين، وآل كل والصالحين، وسلام الله عليهم أجمعين.
أما بعد فإن من أصول عقائد الإسلام اعتقاد أن الله خالق كل شىء، والخلق هو الإخراج من العدم إلى الوجود، والخلق بهذا المعنى خاص بالله تعالى، قال تعالى: ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ﴾ سورة فاطر/3، الله تبارك وتعالى أطلق في هذه الآية وصف نفسه بخلق كل شىء لم يقيّد ذلك بالأجسام ولا بالأعمال فأفهمنا أنه تبارك وتعالى هو خالق الأجسام الصغيرة والكبيرة من العرش إلى الذّرة، وأنه هو خالق الأعمال خالق الحركات والسكنات والنوايا والإدراكات والعلوم كلّ ذلك الله خالقه لا خالق لشىء سواه، وقال تعالى: ﴿أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ﴾ سورة النحل/17، تمدَّح الله تعالى بذلك فلو كان أحد سواه يخلق الأعمال لم يكن ذلك مدحًا له. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله يصنعُ كلَّ صانعٍ وصنعَته” رواه البخاري في كتاب خلق أفعال العباد.
وروي عن إمام الصوفية العارفين الجنيد البغدادي أنه سئل مرة عن التوحيد فقال: “إنه لا مُكَوِّنَ لشىء من الأشياء من الأعيان والأعمال خالق لها إلا الله تعالى”، والأعيان هي كل ما له حجم صغيرًا كان أو كبيرًا، أما الأعمال فالمراد بها أعمال العباد ما كان خيرًا منها وما كان شرًا، فيجب علينا اعتقاد أن كل ما دخل في الوجود من الأعيان أي الأحجام والأعمال، وجد بخلق الله سبحانه وتعالى كما قال الله عزّ وجل في محكم كتابه:
﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)﴾ سورة الصافات. فهذه الآية صريحة في ما ذكرنا فنحن لا نخلق شيئًا لا ذواتنا ولا أعمالنا إنما نحن وأعمالنا بخلق الله تعالى ولا فرق في ذلك بين أعمالنا الاختيارية كالأكل والشرب والصلاة وبين الأعمال الاضطرارية كالارتعاش من البرد بل كل ذلك بخلقه سبحانه.
إن الإنسان لا يخلق شيئًا من أعماله الاختيارية فضلًا عن الاضطرارية، لأن الإنسان إذا شق التفاحة لا يكون هذا الشق بخلق هذا الإنسان بل بخلق الله، والدليل على ذلك أنه لو كان يخلق هذا الشق لاستطاع أن يخلق الالتئام، ولا يستطيع ذلك، فهذا دليل على أن الإنسان لا يخلق شيئًا إنما الله تعالى يخلق فيه بقدرته هذه التطورات والحركات والسكنات، هذا خالص التوحيد، فمن حاد عنه فقد ضل وخرج عن قضية العقل الصحيحة وعن النصوص القرءانية.
ومن أوضحِ الأدلة على مذهب أهل الحق أي على أنَّ العبادَ لا يخلقون شيئًا من أفعالهم قوله تعالى: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ سورة الأنفال/17، فإن القتلَ للكفار حصل من المسلمين ونسبه الله إليهم في غير هذه الآية من حيث الظاهر أي الكسب ونفاه عنهم من حيث التكوين. كذلك رمي الرسول بالحصى الذي ملأ أعين الكفار فانهزموا حصل من الرسول كسبًا فنسبه الله إليه من حيث الكسب ونفاه عنه من حيث التكوين فلا يكون عليه الصلاة والسلام خالقًا لرميه.
وورد في الحديث الذي رواه البخاري وغيره عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قفل -أي رجع- من غزو أو حج أو عمرة يكبّر على كل شَرَفٍ – أي المكان العالي- من الأرض ثلاث تكبيرات ثم يقول: “لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، له الملكُ وله الحمدُ وهو على كل شىء قدير آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون، صَدقَ الله وعدَه ونصرَ عبدَه وهزمَ الأحزابَ وحدَه” أي أن هَزْمَ الأعداء أي الكفار من حيث الخلق والإيجاد من العدم إلى الوجود انفرد الله به مع أن الرسول والصحابة هزموا الكفار من حيث الظاهر. وهذا هو معتقد المسلمين في أفعال العباد ولم يكن بين الصحابة مخالف في ذلك بل أول من خالف في ذلك المعتزلة.
وقال الله تبارك وتعالى في محكم كتابه في ذم المشركين: ﴿أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)﴾ سورة الرعد، لقد أمر الله نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم في هذه الآية أن ينكر على المشركين الذين كانوا يعبدون الأصنام من دون الله ويبيّن لهم أن الله هو خالق كل شىء وأنه الواحد الذي لا شريك له ولا مثيل له ولا نظير له ولا خالق لشىء من الأشياء إلا هو، القهار أي الغالب لكل ما عداه الذي كل ما سواه تحت قدرته مقهور له سبحانه وتعالى.
قال الإمام ابن الجوزي في كتابه زاد المسير في علم التفسير: ﴿أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء﴾، قال ابن الأنباري: معناه: أجعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه، فتشابه خلق الله بخلق هؤلاء؟ وهذا استفهامُ إنكارٍ، والمعنى: ليس الأمر على هذا، بل إذا فكّروا علموا أن الله هو المنفرد بالخلق، وغيرَه لا يخلق شيئًا. وقوله تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ﴾ قال الزجاج: قل ذلك وبيّنه بما أخبرت به من الدلالة في هذه السورة مما يدل على أنه خالق كل شىء اهـ
وقال الله تبارك وتعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)﴾ سورة الأنعام. أخبر الله تعالى بأن صلاة العبد ونسكه -أي ما يذبحه تقربًا إلى الله تعالى كالأضحية- ومحياه ومماته ملك لله وخلق لله لا يشاركه فيه غيره، فأَعْلَمَنَا أنه لا فرق في ذلك بين الأعمال الاختيارية كالصلاة والنسك وبين ما يتصف به العبد مما ليس باختياره كالحياة والموت، إنما تتميز الأعمال الاختيارية -أي التي تقع باختيار العباد فيكتسبها الناس- بأنها هي التي عليها يحاسب الإنسان ويؤاخذ، فما كان منها خيرًا يثاب عليه وما كان شرًا يؤاخذ عليه كما قال الله تعالى: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ سورة البقرة/286 أي من الخير أي تنتفع بذلك ﴿وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ سورة البقرة/286 أي وعليها وبال ما اكتسبته من الشر أي تستحق العقوبة على ذلك، والكسب هو توجيه العبد قصدَه وإرادَتَه نحو العمل فيخلقه الله عند ذلك فالعباد كاسبون لأعمالهم والله خالق للعباد وخالق لأعمالهم وخالق لنياتهم وقصودهم لا خالق إلا هو سبحانه وتعالى الذي لا شريك له.
الأسباب لا تخلق مُسَبَّبَاتِها
وكذلك الأسباب العادية عند أهل الحق لا تخلق مسبَّباتها أي ما ينشأ عنها، والأسباب العاديّة هي هذه الأمور التي جعل الله تبارك وتعالى فيها السَّببيّة بشَىء من الأشياء، فالماء جعله الله سببًا للري، والخبز جعله الله سببًا للشبع، والنار جعلها الله تعالى سببًا للإحراق، والدواء جعله الله سببًا للشفاء ولم يجعلِ الله تعالى هذه الأسباب خالِقةً للمسببات التي تحدث بعد مباشرتها، فالري الذي يحصل بعد شرب الماء ليس الماء يخلقه كذلك الشبع الذي يحصل إثْر تناول الطعام ليس الطعام يخلقه والشفاء الذي يحصل إثْر تناول الدواء ليس الدواء يخلقه، وعندما تلامس النار الشىء الذي يحترق يخلق الله الاحتراق في هذا الشىء فيحترق، ولو لم يشإ الله ذلك لم يحترق ذلك الجسم. بل يوجد حيوان يقال له السمندل وهذا الحيوان يدخل النار ولا تحرقه ولا تؤثر فيه وهو مثل غيره من الحيوانات مركب من لحم ودم، حتى إن الفراء والمناديل المتخذة من جلده إذا اتسخت تطرح في النار لتنظيفها، وحتى إنه يغمس في الزيت ويشعل نارًا ثم عندما يحترق الزيت ويذهب أثره تنطفئ النار وتبقى هذه المناديل وقد ذهب عنها الوسخ ولم تحترق، قال في القاموس: “السمنْدل: طائرٌ بالهند لا يحترق بالنار”، هذا جعله الله تعالى دليلًا لنا على أن النار لا تخلق الإحراق بل الله تعالى هو الذي يخلق الإحراق إثْر ملامسة النار للشىء الذي يحترق، أي أن النار لا تخلق الإحراق بطبيعتها وأنها لا تؤثر بطبْعها في الإحراق أي بدون إرادة الله وخلْق الله تعالى لهذا الإحراق، فالله تعالى هو الذي يخلق الإحراق ليست النار تخلق الإحراق، وكذلك قصة إبراهيم عليه السلام دليلٌ على أن النار لا تخلق الإحراق، لأنها لو كانت النار تخلق الإحراق وأنها بطبيعتها تؤثر في ذلك لا بمشيئة الله وإرادته لاحترق سيدنا إبراهيم وما خرَج سالـمًـا.
وهذه المسئلة أي أن الله خالق كل شىء هي من أصول مسائل العقيدة، فمن اعتقد بخلافها لا يكون مسلمًا، يعني من اعتقد أن أحدًا يشارك الله في الخالقية لا يكون مسلمًا، ولو ادعى الإسلام.
ثم إن من يعقد قلبه على أن الله هو خالق كل شىء وأنه لا ضار ولا نافع على الحقيقة إلا هو ويكثر من شهود ذلك بقلبه حتى يصير مستشعرًا لذلك بقلبه دائمًا تهون عليه مصائب الدنيا وتهون عليه الشدائد ويذهب عنه الخوف من العباد ويصير من أهل اليقين.
اللهم اجعلنا من أهل اليقين وثبتنا على الطريق القويم، آمين.
والحمد لله رب العالمين.█