الحمد لله رب العالمين صلوات الله البَرّ الرحيم والملائكة المقربين على سيدنا محمد أشرف المرسلين وقائد الغر المحجلين وعلى إخوانه النبيين والمرسلين وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين.
أما بعد فقد قال الله تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)﴾ سورة المائدة.
ومما جاء في فضل الوضوء ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إذا توضَّأ العبدُ المسلم أَو المؤمنُ فغسلَ وجهَهُ خرَجَ من وجهِهِ كلُّ خطيئَةٍ نظرَ إليها بعينِهِ معَ الماءِ أو معَ آخرِ قَطْرِ الماءِ فإذا غسلَ يَدَيْهِ خرجَ من يَدَيْهِ كلُّ خطيئة كان بَطَشَتْهَا يداهُ مع الماء أو مع آخر قَطْرِ المَاءِ فإذا غسلَ رجليه خرجتْ كلُّ خطيئةٍ مَشَتْهَا رِجْلَاهُ مع المَاءِ أو مَعَ آخِر قَطْرِ المَاءِ حتى يَخْرُجَ نقيًّا من الذُّنُوب” رواه البخاري ومسلم. والمراد الوضوء التام -أي مع السنن- كما كان وضوء النبي صلى الله عليه وسلم.
وبعد أن عرفنا فضله سنذكر فروضه وسننه، لنعلم كيف كان وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، لنتبعه ولا يفوتنا هذا الثواب العظيم.
فأول شىء نبدأ به هو التسمية مع غسل الكفين، وأقل التسمية أن يقول الشخص: »بسم الله«، وأكملها أن يقول: “بسم الله الرحمن الرحيم”، فإن تركها في أول الوضوء أتى بها في أثناء الوضوء فيقول: “بسم الله أولَه وآخرَه”، ثم غسل الكفين ويكون إلى الكوعين، والكوع هو العظم الذي يلي الإبهام.
ثم يستاك، ثم يتمضمض، ويحصل أصل السنة فيها بإدخال الماء في الفم، والأكمل إدارته في الفم ومجّه بعد المبالغة، ويستنشق، ويحصل أصل السنة فيه بإدخال الماء في الأنف، وأكمله نثره بعد المبالغة في نشقه، على هذا الترتيب، قال النووي في روضة الطالبين: ولو قدم المضمضة والاستنشاق على غسل الكف لم يحسب الكفُّ على الأصح.
ثم ينوي فرض الوضوء مع غسل الوجه، ويغسل وجهه، وحد الوجه طولًا ما بين منابت شعر الرأس عند غالب الناس إلى ما تحت منتهى اللحيين والذقن -واللحيان هما العظمان اللذان تنبت عليهما الأسنان السفلى، والذقن هو مجتمع اللحيين- وعرضًا ما بين الأذنين، فيجب غسل ما فيه من الشعور ظاهرًا وباطنًا، وضبط حد الوجه الإمام الجويني فقال: أن تضع طرف خيط على رأس الأذن -والمراد به الجزء المحاذي لأعلى العذار-، والطرف الثاني على أعلى الجبهة -من منبت الشعر- فما تحت الخيط يجب غسله لأنه من حد الوجه. أما لحية الرجل وعارضاه ففيهما تفصيل -والعارض هو الشعر الذي ينبت على اللحيين-، فإذا كانت كثيفة بحيث إذا نظر المخاطِب لا يرى البشرة من خلالها فلا يجب غسل باطنها، بل يكفي غسل ظاهرها فقط وإنما غسل باطنهما حينئذ يكون من باب السنة ويُسن تخليلها، وكيفية التخليل أن يدخل المتوضئ أصابعه من أسفل اللحية ليصل الماء إلى باطنها. أما إن كانت خفيفة بحيث لو نظر المخاطِب إليها يرى البشرة من خلالها، فهذه يجب غسل ظاهرها وباطنها أيضًا. ويجب مع غسل الوجه غسل جزء زائد على حد الوجه ولو قدر قلامة ظفر، وذلك للتيقن من استيعاب الوجه، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ثم يغسل يديه من الكفين والذراعين مع المرفقين، والمرفق هو مجتمع عظمي الساعد وعظم العضد، ويجب غسل ما عليهما من شعر وأظافر، وإزالة ما تحت الأظافر من وسخ يمنع وصول الماء، لأنه يجب أن يصل الماء إلى جميع أعضاء الوضوء. ويسن الدلك أي إمرار اليد على العضو المغسول، وتقديم اليمنى من يديه على اليسرى، ويسن تخليل أصابع اليدين ويحصل ذلك بالتشبيك بينهما.
ثم يمسح بعض الرأس من شعر -ولو شعرة واحدة في حد الرأس- أو بَشَرٍ لا شعر عليه، ولا يشترط المسح لحصول الفرض في مسح الرأس، بل حتى لو غسل رأسه مثلًا يكفي إلا أنه خلاف السنة. وحد الرأس من منبت شعر غالب الناس إلى نُقرة القفا.
ويندب أن يكون المسح من مقدم الرأس، ثم إن كان شعره ينقلب -أي كان قصيرًا مثلًا- فالأكمل في المسح بأن يضع يديه على مقدم رأسه ويلصق مسبحته الأخرى وإبهاميه بصدغيه -والصدغ هو الموضع الذي ما بين العين والأذن- ثم يذهب بهما إلى قفاه، ثم إن كان له شعر ينقلب يردهما إلى المكان الذي بدأ منه، وذلك ليصل البلل إلى جميعه، وهذه تحسب مسحة واحدة. أما من ليس له شعر أو كان له شعر لا ينقلب-كأن كان طويلًا لا ينقلب إذا ردَّ المسبّحتين- فلا حاجة إلى أن يرد المسبحتين إلى المكان الذي بدأ منه، فإن رد لم يحسب ثانية، لأن الماء صار مستعملًا. ثم يسن بعد مسح الرأس مسح الأذنين ظاهرهما -وهو ما يلي القفا- وباطنهما -وهو ما يلي الوجه- بماء جديد أي غير بلل ماء الرأس، والسنة في كيفية مسحهما أن يُدخِل مسبحتيه في صماخيه ويديرهما على المعاطف، ويمر إبهاميه على ظهورها، ثم يلصق كفيه وهما مبلولتان بالأذنين استظهارًا أي طلبًا لظهور المسحِ لِكُلٍّ.
ثم يغسل رجليه مع الكعبين، والكعبان هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم. وأيضًا يجب غسل ما عليهما من شعر وأظفار وما تحت الأظفار من وسخ يمنع وصول الماء، كما سبق في اليدين. ويسن أيضًا الدلك وتقديم اليمنى على اليسرى، وتخليل أصابع الرجلين والأحسن أن يكون من أسفلها بخنصر يده اليسرى مبتدئًا بخنصر رجله اليمنى خاتمًا بخنصر الرجل اليسرى.
ومن فروض الوضوء الترتيب على ما ذكرناه.
ومن سنن الوضوء الموالاة ويعبر عنها بالتتابع، وهي أن لا يحصل بين العضوين تفريق كثير، بل يطهّر العضو بعد العضو، بحيث لا يجف المغسول قبله. والطهارة في كل عضو مغسولًا كان كالوجه واليدين والرجلين، أو ممسوحًا كالرأس، ثلاثًا ثلاثًا. ويسن إطالة الغرة أي يزيد عن الموضع الواجب غسله في الوجه، وكذلك يسن إطالة التحجيل أي يزيد على الموضع الواجب غسله في اليدين والرجلين وتقليل الماء وعدم الإسراف فيه.
وأيضًا من السنن الدعاء الوارد الذي يقال بعد الوضوء، فقد روي عن عقبة بن عامر الجهني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما منكم من أحد يتوضأ فيُسبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، إلا فُتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء” أخرجه مسلم. ومعنى أسبغ الوضوء أي أتى به مع سننه على التمام.
نسأل الله أن يجعلنا من التوابين ويجعلنا من المتطهرين.
والحمد لله أولًا وآخرًا.█