عندما يعيش ابن القرية في المدينة أو ابن المدينة في القرية يتعرّض كلٌّ منهما للمواقف الصادمة التي يستغربها لأنّها لا تتلاءم مع عادات وتقاليد اعتاد عليها؛ فنشهد في حالات معيّنةٍ تصادمًا بين مجتمعات مختلفة. تستوقفني في هذا الصدد مواقف عدّة واجهتها في ظلّ سكني في المدينة وأنا ابنة القرية. مواقف تجعل مدننا، وأتمنّى أن يكون ظنّي خطأً، أقرب إلى الحياة الأوروبيّة منها إلى الحياة العربيّة التي عُرفت بالقُرب والألفة.
أمثلة استوقفتني
لطالما استوقفتني، في حياتي في المدينة المكتظّة ولكن الفارغة أحيانًا من التعاطف، مواقف أفراح وأتراح تبلغني بطريقة المصادفة: مات جارنا ولم أعلم بالخبر إلّا بعد سماع صوت قراءة القرءان أثناء تشييع الجنازة من بيته المجاور لبيتنا… تزوّجت ابنة جارنا في الطبقة العُليا من المبنى الذي أسكن فيه، ولم أعلم بذلك إلّا عبر قرع الطبول، وإطلاق المفرقعات الناريّة عند حضور العريس لاصطحاب عروسه… فهل أصبحت الجيرة قرب مسافة وسكن لا أكثر؟ أين جيران هذا الزمن من المشاركة في الأفراح والأحزان؟ هل أصبحت الجيرة القريبة مسافات شاسعة بين قلوب أصحابها؟ أسئلة تراود فكري وتزداد عندما أرى تهرّب هذا الجار من إلقاء التحيّة على الآخر أو تغيير وجهة سيره كي لا يلتقي به… في حين كان جيران الأمس يتقاسمون الطعام والشراب… وأكثر. هذه المشاركة، رغم تراجعها بشكل كبير في المدن أو حتّى انعدامها في نواحٍ معيّنة، إلّا أنّ القرية اللبنانيّة لا زالت تحافظ على كثير من مظاهر المشاركة والتعاضد بين الجيران.
المشاركة الاجتماعيّة في القرى
إنّ التضامن بين الجيران يتجلّى في المساعدة في قضاء الحوائج. ولا يقتصر ذلك على الحوائج المادّية، بل يتعدّاه إلى الدعم المعنوي في المناسبات السعيدة كنجاح الأبناء أو زواجهم، كذلك في البلاء، أو سفر ولد أو غيرها من الظروف التي قد يمرّ بها الشخص. هذه المظاهر، وفي كلّ هذه المناسبات وفي غيرها، تظهر بوضوح في تصرّفات جيران القرية. هاكم بعض الأمثلة التي نروي لكم فيها اجتماعات “الضيعة” في مناسبات وظروف مختلفة.
عرس القرية
لا موعد محدّد لبدء توافد الجيران إلى المنزل القروي الذي يقام فيه العرس. فمنذ تحديد الموعد وشيوع الخبر بين جيران الحي الواحد في القرية يبدأ سؤال الجيران وزياراتهم: “ماذا ينقصكم؟”، “من لم تتم دعوته بعد من الجيران؟”، “هل وزّعتم كلّ البطاقات؟”، “هل تمّ تحضير خطّة الطعام؟”، “متى ستجتمعون للفّ ورق العنب”، وتحضير “الكبّة المنقورة”؟ قد يستغرب أهل المدن هذه الأسئلة لأنّهم لا يعلمون تفاصيل العرس القروي: لا يقتصر في هذا العرس على بضعة عشرات من المدعوّين بل يُدعى الجيران كلّهم ويشاركون في دعوة من يريد أهل العرس دعوتهم من الأحياء القريبة وذلك من باب إعانتهم في المهام الكثيرة التي يبغون إنجازها. فيتولّى البعض منهم أحياء وبيوتًا وأُسرًا معيّنة وذلك توزيعًا للمهام عليهم. كذلك الكثير من طعام “وليمة العرس” يتمّ تحضيرها منزليًّا. إلا أنّ هذا الشىء قلّ في السنوات الأخيرة بسبب وجود المطاعم التي تُنجز جزءًا كبيرًا من الطعام. ولكن رغم ذلك يترك الجيران أطعمة معيّنة لكي يتمّ تحضيرها منزليًّا عبر اجتماع النساء قبل يومين من العرس وذلك من باب الاجتماع على الخير وتقوية الألفة والتضامن فيما بينهم. كذلك توضع طاولة “نقوط” طيلة نهار العرس ويدفع من يريد من المدعوّين هديّة نقديّة للعروسين ولو كان على شكل مبلغ زهيد إلا أنّ المجموع يكون دعمًا مادّيًّا كبيرًا للعروسين.
العزاء
وكما في الأفراح، كذلك في الأحزان يجتمع الجيران جميعًا عند وفاة أحد الجيران للمساعدة قدر المستطاع في تجهيز الميّت. ويبقى الجيران في تقبّل التعازي، بجانب الأهل، طيلة الوقت. كذلك يقوم الجيران، بالاتفاق في ما بينهم، بتقديم الطعام على مدار أيّام العزاء لأهل الميّت وذلك تسهيلًا عليهم ومواساةً لهم في مصابهم.
الخدمات المتبادَلة
كذلك من ميزة أهل القرية الواحدة أنّهم يتعاطفون فيما بينهم إذا ما التقوا في مكان خارج القرية، ولو من غير معرفة سابقة. فيُقدِم الواحد منهم على مساعدة ابن قريته خاصةً إذا كان طبيبًا أو صاحب مهنة يمكنه تقديم الخدمات عبرها. وهذا أيضًا وجه من أوجه التضامن بين أهل القرية الواحدة عند اجتماعهم خارجها.
خطوات لإعادة التضامن والمشاركة في المدن
كل العادات القرويّة التي سبق أن ذكرناها تختلف عن عادات المدن. قد يكون واقع العيش في المدينة واختلافه عمّا هو عليه في القرية هو السبب في غياب هذه الأوجه للتضامن فيما بين الجيران، فالحياة في المدينة هي حياة عمليّة سِمَتُها الإنتاج الاقتصادي. كذلك تطاول المباني في المدن جعل سكّانها أُسَرًا آتية من نواحٍ مختلفة لا تربطهم أيّة صلة سوى القرب الجغرافي للمسكن. نضيف إلى كلّ ذلك عجلة الحياة السريعة في المدن فيضيق الوقت للتفرّغ والتعاون على كلّ التفاصيل المذكورة سابقًا من عادات لدى جيران القرى. فيتمّ اللجوء إلى “منسق العرس” للتكفّل بكلّ هذه المهام اعتمادًا في كثيرٍ من الأحيان على التطوّر التكنولوجي الذي حلّ، حتّى في المناسبات الإنسانيّة، محل تقديمات ومبادرات الجار التطوّعيّة.
في ظلّ كلّ هذه الظروف الخاصة بحياة المدُن أصبح من الصعب تطبيق كلّ مظاهر التضامن والتعاون الموجودة في القرى. إلا أنّ بعض النقاط البسيطة يمكنها أن تعيد شيئًا من التواصل والتقارب المفقود بين الجيران. فهاكم بعض المقترحات.
أفراح مشتركة
يمكن لسكان المبنى الواحد إعادة أواصر التواصل فيما بينهم ولو في المناسبات. فمن ذلك تضامن الجيران فيما بينهم لإقامة حفلة لابن جارهم المتخرّج من الجامعة أو من المدرسة، أو للاحتفال بزواج أبناء أحد الجيران. ففي هذا السياق، ولو لم يتّسع مكان العرس الضيّق في المدن لدعوة كلّ الجيران، إلا أنّ صاحب المناسبة يمكنه دعوة الجيران للاجتماع في بيته قبل بضعة أيّام من العرس وإطعامهم الحلوى مشاركةً لهم بفرحته. كذلك يمكن للجيران أن يجمعوا مبلغًا من المال من كلِّ واحد منهم وتقديمه له دعمًا له لبداية مرحلة جديدة وذلك على غرار “طاولة النقوط” في القرية.
كذلك يمكن لسكّان المبنى الواحد أن يجتمعوا في المناسبات الإسلامية عبر إقامة حفلات وجَمعات في ذكرى المولد مثلًا. فمن الممكن أن تقوم لجنة البناية بتنظيم نشاطات كهذه بعد جمع المال لذلك من السكّان. فلا تخفى الفائدة الدينيّة والاجتماعية التي تعود على الجيران من القيام بنشاطات مماثلة وذلك عبر تأليف قلوبهم على الخير.
ظروف قاهرة أو أحزان
كذلك، قد يمرّ أحد الجيران بظرفٍ صعبٍ يحتاج فيه للنصيحة في كيفيّة التعامل مع ابنٍ ذي طباعٍ حادّة مثلًا. وقد يكون جار آخر سبق له أن مرّ بتجربة شبيهة خلال مراحل تربيته لولده الذي أصبح شابًا وتخطّى هذه الأزمة. في هذه الحالة يستطيع هذا الأخير أن يفيد غيره من خبرته، لكن مع الاحتراز من الغيبة المحرمة.
هي باختصار خطوات بسيطة يمكن للجار أن يقوم بها مع جاره وتكون كفيلة بإعطائه الدفع الكبير لتجاوز ظرف معيّن ضاق صدره به. ففي كثير من الأحيان قد لا يحتاج الشخص إلا إلى الشعور بأنّ مَن حوله يقف فعلًا إلى جانبه ويسأل عن أحواله ليس إلا. فلنكن، أينما كان مسكننا، أصحاب الجيرة الحسنة.█