الحمد لله فالق الإصباح بالنور الذي استضاءت به ظلمات البقاع. والصلاة والسلام على من أرشد وهدى وبمطالع شـمـوس الـعـنـايـة مــحــمــد بــن عــبــد الله رسول الله بدر الدجى ومصباح الهدى وشمس الصباح. 

وبعد فقد قال الله تعالى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) سورة آل عمران. 

فقد جعل الله ابيضاض وجوه المؤمنين والمتقين في الآخرة علامة الرحمة ودليل الرضا وجعل اسوداد وجوه الناكبين عن الحق والهدى الخائضين في غمرات الشرك والردى علامة الخذلان ودليل الحرمان….

فالبياض يكون في كثير من الأحيان مرادف التنوير ودرب البصر وعلامة النقاء وصلاح الأحوال…

وهو قرين البِشر ورفيق السرور ووضوح الجسور وطمأنينة القلب وسكينة النفس…

وقد جاء في الأثر: “خيرُ ثيابِكم البياضُ فأَلبِسوها أحياءَكم وكفِّنوا فيها موتاكم” رواه الحاكم.

فالبياض في الثوب من حيث الأصل أنه منسوج من القطن أو الصوف ببقاء بياضه كما هو ويزداد بالغسل مرة بعد مرة بياضًا بعد بياض… وهو هكذا من غير تكلف صنعه وتلوينه ومن غير تكلف صقله ليزداد بياضًا… والرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن يتكلف في أكله وشربه ولباسه ما يتكلفه أهل الدنيا… بل كان ينصرف إلى الأولى ويقدم ما هو أنفع وأجدى… ولا يعني هذا أنه لم يلبس سوى الأبيض بل ثبت أنه لبس غير ذلك من الألوان ولكنه كان يحب الأبيض ويحببه إلى الناس.

ولا يخفى أن الكثير من الناس يطلبون الألوان في ثيابهم ويتأنقون بها مفاخرة وكبرًا ويتكلفون لذلك الكثير الكثير من جهد ومال ووقت ويتنافسون في ذلك تنافسهم على عروض الدنيا المختلفة… بل وكثير منهم يتعايبون في ذلك أو يتمادحون به…

ولا يخفى أن المؤمن لو تعمد ثوبه في حسن الستر ونظافة المظهر وإتقان ذلك من غير عجب ولا كبر ولا فخر… فهذا مما لا يعاب ولا يعد من الاشتغال بالدنيا عن الآخرة ولا يعد تكلفًا فوق الحاجة ولا إمعانًا في الدنيا وغرورها…

وقد ورد في الأثر تشبيه الشريعة بالمحجة البيضاء تنويهًا لكون كل درب سوى الشرع أسود مظلمًا والبياض يستبين للرائي بأقل النور، وعلم الشرع نور القلب الذي يتلمس به العبد المحجة وهي الطريق والصراط والسنة والمنهاج المستقيم فلا يضيعهما ما دام يستضيء لها بنور العلم… وكلما زادت الظلمة زاد البياض توهجًا بالنور المشرق عليه وزاد بيانًا ووضوحًا للسالك الطالب رضا الله.

والثوب الأبيض لا تخفى عليه اللوثةُ من وسخ ودرن ونجاسة فيسهل أن يتنبه المرء أو ينبَّه إلى ذلك فيطلب بالغسل إزالة ذلك عنه قبل أن يمشي به بين الناس أو أن يتلبس بعبادة يحتاج معها إلى طهارة ثوبه ونزاهته عن النجاسة…

وينبغي للإنسان أن يكون كذلك… في وضوح التزامه الشريعة وأدائه الطاعة وتجنبه للحرام… كالثوب الأبيض… صريح الانتماء ظاهر الالتزام يحكي الظاهر منه عن صفاء الباطن إلا أن الإنسان لا يصفو له ظاهر تمام الصفاء إلا بنقاء سريرة وتنوير قلب فإذا سعى في ذلك فأصلح ما بطن…. أصلح الله له حاله بين الناس وصاروا إذا رأوه ذكروا الله وجعل الله له سيماه في وجهه دليلًا على الخير ومَعْلَمًا في حاله ومقاله ولقد قيل: “من أصلح جُوَّانِيَّهُ أصلح الله بَرَّانِيَّه” ومن كان حاله كأبيض الثياب يظهر له من نفسه التقصير ويسوؤه منها الحرام ولو صغيرًا وتتبدى له السيئة فورًا  كالنقطة السوداء في الثوب الأبيض فتستلفت إليها نظره فينشغل بإصلاح نفسه وسدّ عورها عن الاشتغال بإحصاء عورات غيره وعدّ سوءاتهم…

وأمّا من تلوَّن حاله بين طاعة قليلة ومعصية كثيرة فإنه يعتاد ارتكاب حرام بعد حرامٍ كأنه ثوب مرقع بألوان شهوات الدنيا وغرورها وحرامها وشرورها…

ويستثقل كيفية التخلص من أشراكها وأفخاخها لعروض الشهوة كلما طرق بـاب الــتــوبـــة ولــضــعــف الــعــزيــمــة وقد دكَّ الشيطان أركانها… ولغَرْفِه في الدنيا أشكالًا من الموبقات وألوانًا من الشهوات…

ولقد أُثِر عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن ندعو “ونقنا من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس” فإنه إذا غسل لم نزل نطلب فيه الطهارة ما دام يظهر من الدنس للعين الأثر فإذا عاد له بياضه كما كان اطمأنت النفوس إلى تمام نظافته وكمال نزاهته….

فالبياض في نفوس الناس يعني هذا كله ولذا نراهم يعبرون عن كل ما يطمئنون له وهو عندهم بيّن جَلِيّ بالأبيض وعما يحذرونه أو يرون فيه الغموض والشبهة بعكس البياض ودرج فيما بينهم أن يقولوا عن الفعلة الحسنة أنها تبيض الوجوه وعن الغفلة السيئة أنها تَسْوَدُّ لها الوجوه…. ومن كان ذا فضل على الناس أياديه بيضاء استعظامًا لما أحسن لمن حوله واعترافًا بجميل إحسانه…

فلنكن فيما بيننا على صفاء وفي معاملة الناس على نقاء… بأبيض الفعل وواضح القول وبين السلوك فإن الإنسان إذا صفا في قوله وفعله ومعاملته وسلوكه يكسب الثقة وينال الاحترام ويسمو في عيون الناس كلامه صدق ظاهره ما أبطن ابتسامته الرضا وعبوسته السخط يحكي فلا يتكلَّف ويعِدُ فلا يتخلَّف…

يصف فلا يُشوِّه ويعرف فلا يُموِّه أبيض الوجه بلزوم الخير وأبيض الفعل بدوام الشكر…. طلبه رضا الله لا غير ومراده أن يسلم من الدنيا وشرورها بلا ضير….

جعلنا الله وإياكم مِمَّنْ تَبْيَضُّ وجوههم يوم تَبْيَضُّ وجوهٌ وتَسْوَدُّ وجوه والحمد لله رب العالمين.█