الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين.
أما بعد فقد روى البخاري وغيره عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “انطلقَ ثلاثةُ رَهْط -أي ثلاثة رجال- ممن كان قبلَكم حتى أَوَوُا المبيتَ -أي غشيهم الليل وآن وقت المبيت وقد وصلوا- إلى غار -والغار هو ما يكون في الجبل مما يدخله الناس يبيتون فيه أو يتظلّلون فيه من الشمس وما أشبه ذلك- فدخلوه، فانحدرت صخرةٌ من الجبل فسدَّت عليهم الغارَ -ولم يستطيعوا أن يزحزحوها لأنها صخرة كبيرة فرأوا أن يتوسلوا إلى الله تعالى بصالح أعمالهم- فقالوا: إنه لا يُنجيكم من هذه الصخرةِ إلا أن تَدْعُوا الله بصالحِ أعمالِكُم -فدعا كل واحد بعمل صالح كان قد عمله-، فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أَغبِقُ قبلهما أهلًا ولا مالًا -والغبوق هو الشرب بالعشي أي آخر النهار والمعنى أنه كان له غنم فكان يسرح فيها ثم يرجع في آخر النهار ويحلب الغنم ويعطي أبويه الشيخين الكبيرين ثم يُعطي البقية لأهله أي زوجته وأولاده -فنأى بي في طلب شىء يومًا، فلم أَرِحْ عليهما حتى ناما، فحلبْتُ لهما غَبُوقَهما فوجدتُهما نائمين -أي فرجع فوجد أبويه قد ناما، فنظر هل يسقي أهله وماله قبل أبويه أو ينتظر حتى يستيقظ الأبوان- وكَرهتُ أن أغبِقَ قبلَهما أهلًا أو مالًا، فلبثتُ والقدحُ على يدي أنتظرُ استيقاظهما حتى برق الفجرُ، فاستيقظا فشربا غَبوقَهما يعني أنه بَقِيَ فأمسك الإناءَ بيدِهِ حتى طلعَ الفجرُ وهو ينتظرُ أبويهِ فلما استيقظا وشَرِبا اللبنَ أسقى أهلَهُ وعبيده، ثم دعا فقال: اللهم إن كنتُ فعلت ذلك ابتغاءَ وجهِك ففرِّجْ عنّا ما نحنُ فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئًا لا يستطيعون الخروج”، والمعنى إن كنتُ مخلصًا في عملي هذا، أي فعلتُهُ مِنْ أجلِكَ أي من أجل مرضاتك ففرِّجْ عنا ما نحن فيه، فتقبَّل الله منهُ هذه الوسيلةَ وانفرجت الصخرة لكن انفراجًا لا يستطيعون الخروج منه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: “وقال الآخر: اللهم كانت لي بنتُ عم كانت أحبَّ الناسِ إليّ، فأردتها عن نفسها، فامتنعت مني –فأرادها عن نفسها أي بالزنى ليزنيَ بها ولكنَّها لم تُوافِقْ وأَبَتْ– حتى ألـمَّت بها سنة من السّنين –أي أصابها فقرٌ وحاجةٌ– فجاءتني فأعطيتُها عشرين ومائة دينار على أن تُخَلّي بيني وبين نفسِها –أعطاها المال الذي تحتاجه على أنْ تُمَكِّنَهُ من نفسها–، ففعلت حتى إذا قدرْتُ عليها -أي لما حصل مرادي وتمكنتُ من فعل الفاحشة معها- قالت: لا أُحِلُّ لك أن تفضَّ الخاتَم إلا بحقه- وفي رواية: اتَّقِ الله ولا تَفُضَّ الخاتمَ إلا بحقِّهِ -فخَوَّفَتْهُ بالله عزَّ وجلَّ وأشارت إليه إلى أنه إن أراد هذا بالحقِّ أي بالنكاح الحلال فلا مانع عندها، لكن كونُهُ بغير حقٍّ فهي لا تريده، لأنَّ هذا من المعاصي- فتحَرَّجْتُ من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحبُّ الناس إليّ -يعني ما زالت رغبته عنها ولا كرهها بل حبُّها باقٍ في قلبه، لكن أدركَهُ خوفُ اللهِ عزَّ وجلَّ- وتركت الذهبَ الذي أعطيتها، اللهم إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجهك فافْرُجْ عنَّا ما نحن فيه، فانفرجتِ الصخرةُ غيرَ أنهم لا يستطيعون الخروج منها”. وهذا من آيات الله لأن الله على كلِّ شىءٍ قديرٌ، لو شاء الله تعالى لانفرجَتْ عنهم بعد توسل الأول منهم. ولكنَّه سبحانه وتعالى أراد أن يُبقِيَ هذه الصخرةَ حتى يتوسل كلُّ واحدٍ منهم ما أراد أن يتوسل به من صالح الأعمال.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: “وقال الثالث: اللهم إني استأجرتُ أجراءَ فأعطيتُهم أجرَهم، غيرَ رجل واحد تركَ الذي له وذهب فثمَّرْتُ أجرَهُ حتى كَثُرَتْ منه الأموال –أي أنه استأجر أجراء على عمل من الأعمال فأعطاهم أجورهم إلا رجلًا واحدًا ترك أجره فلم يأخذه، فقام هذا المستأجِر فثمَّرَ المال فصار يتكسَّبُ به بالبيع والشراء وغير ذلك حتى نما وصار منه إبل وبقر وغنم ورقيق وأموال عظيمة- فجاءني بعدَ حينٍ فقال: يا عبدَ الله أدِّ إليَّ أجري. فقلتُ له: كلُّ ما ترى مِنْ أجرِك من الإبل والبقر والغنم والرقيق. فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي. فقلت: إني لا أستهزئ بك -كأنه يقول الأجرة التي لي عندك قليلة كيف لي كلُّ ما أرى من الإبل والبقر والغنم والرقيق لا تستهزئ بي، فقلت: هو لك -فأخذَه كلَّه فاستاقَهُ فلم يترك منهُ شيئًا، اللهم فإن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجهِك فافرُج عنا ما نحنُ فيه، فانفرجت الصخرة –وانفتح الباب- فخرجوا يمشون” وذلك بسبب أنهم توسلوا إلى الله بصالح أعمالهم التي فعلوها إخلاصًا لله عزَّ وجل، فكيف بالتوسل بأشرف الذوات…█