الحمد لله رب العالمين خالق السموات والأرضين وصلى الله وسلّم على رسول الله محمد الطاهر الأمين وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين. 

أما بعد فقد قال الله تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) سورة القمر. وقال الله تعالى: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) سورة الفرقان. 

إن الإيمان بالقدر خيره وشره واجب أي أنه يجب على الإنسان أن يؤمن بأن كل ما دخل في الوجود من خير وشر هو بتقدير الله الأزلي، فالخير من أعمال العباد بتقدير الله ومحبته ورضاه، والشر من أعمال العباد بتقدير الله وخلقه وعلمه ولكن ليس بمحبته ولا برضاه. فالله تعالى خالق الخير والشر لكنه يرضى الخير ولا يرضى الشر. الله تعالى خالق أفعال العباد ونياتهم ومشيئتهم شرّها وخيرها.

واعلموا أنه لا يجري شىء في هذا العالم إلا بتقدير الله سبحانه وتعالى. والقدر هو جعل كل شىء على ما هو عليه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الإيمانُ أن تؤمنَ بالله وملائكتِهِ وكتبهِ ورُسله واليومِ الآخرِ والقدرِ كلِّه خيرِهِ وشرِهِ رواه الإمام أحمد، أي أن المخلوقات التي قدرها الله وفيها الخير والشر إنما وُجِدت بتقدير الله الأزلي.

والإيمان بالقدر هو من الأمور المهمة ويكون باعتقاد أن كل شىء يحصل بتقدير الله ويدخل في ذلك عمل العبد الخير والشر، وأن إرادة الله نافذة في كل ما أراده بمشيئته الأزلية على حسب علمه الأزلي، فما عَلِمَ الله كونَه أراد كونه في الوقت الذي يكون فيه، وما علم أنه لا يكون لم يرد أن يكون فلا يحدث في العالم شىء إلا بمشيئة الله.

وفعل الأسباب لا ينافي التوكل على الله، ولا ينافي اعتقاد أن كل شىء بتقدير الله، فإن المريض إذا تناول الدواء الذي هو سبب للشفاء لا ينافي هذا اعتقاده أن الشافي على الحقيقة هو الله تعالى، لأن أفكارنا وأعمالنا ومشيئاتنا هي بخلق الله وتقديره ومشيئته التي لا تتغير ومن اعتقد خلاف ذلك فليس بمسلم.

لا يحصل شىء إلا بمشيئة الله

قال الله تعالى: ﴿وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29) سورة التكوير، وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه علَّم بعض بناته أن تقول: “ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن” رواه أبو داود. فكل ما شاء الله أن يكون كان وما لم يشأ أن يكون لا يكون ولا تتغير مشيئته، وهذه كلمة أجمع عليها المسلمون سلفهم وخلفهم.

وقد أرسل الله تعالى الرسل مبشرين ومنذرين ليظهر ما في استعداد العباد من الطوع والإباء فمن علم الله منه الإيمان ظهر منه الاستعداد للإيمان، ومن علم الله منه الكفر ظهر منه الاستعداد للكفر كما علم الله وشاء، فيهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة.

وقد رُوي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: “إن أحدَكم يُجمعُ خلقُه في بطنِ أمّه أربعين يومًا ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مُضغةً مثل ذلك، ثم يُرسَلُ الملَكُ فينفُخُ فيه الروحَ ويُؤمر بأربعِ كلماتٍ: بكَتْبِ رزقه وأجله وعمله وشقيٌّ أو سعيدٌ، فوالذي لا إله غيرُه إن أحدَكم ليعمَلُ بعملِ أهلِ الجنة حتى ما يكونُ بينَه وبينَها إلا ذراعٌ فيسبِقُ عليه الكتابُ فيعمَلُ بعمل أهل النار فيدخُلها، وإن أحدَكم ليعملُ بعمل أهل النار حتى ما يكونُ بينَه وبينَها إلا ذراعٌ فيسبقُ عليه الكتابُ فيعملُ بعمل أهل الجنة فيدخلُها” رواه البخاري ومسلم واللفظ له، إذًا السعيد من سعد بقضاء الله فكلٌّ مُيسَّر لما خُلق له.

الله يفعل ما يشاء ويستحيل في حقه الظلم

جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أبو داود والإمام أحمد في مسنده وابن حبان عن ابن الديلمي قال: أتيت أُبَي بن كعب فقلت له: وقع في نفسي شىء من هذا القدر فحدثني بشىء لعله يذهب من قلبي، قال: “إن الله لو عذّب أهل أرضه وسمواته الجن والإنس والملائكة لعذّبهم وهو غيرُ ظالمٍ لهم. ولو رحمَهم كانت رحمتُه خيرًا لهم من أعمالهم -إحسانًا منه لا وجوبًا عليه-، ولو أنفقتَ مثلَ أحدٍ ذهبًا في سبيل الله ما قَبِلَه الله منك حتى تُؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك -من خير أو شر- لم يكن ليخطئك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مِتَّ على غيرِ ذلك دخلتَ النار“. قال: ثم أتيتُ عبد الله ابن مسعود فقال مثل ذلك قال: ثم أتيتُ حذيفة بن اليمان فقال مثل ذلك قال: ثم أتيتُ زيد بن ثابت فحدثني عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك.

وقد قال الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه في كتابه “الفقه الأكبر” عن الله تعالى: “هو الذي قدّر الأشياء وقضاها ولا يكون في الدنيا ولا في الآخرة شىء إلا بمشيئته وعلمه وقضائه وقدره”.

وقال القاضي أبو بكر بن العربي: “من أعظم أصول الإيمان القدر فمن أنكره فقد كفر”. وقال الإمام أبو جعفر الطحاوي في كتابه “العقيدة الطحاوية”: “وأصل القدر سِرُّ الله تعالى في خلقه، لم يطَّلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل، والتعمّق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان وسُلَّم الحرمان ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظرًا وفكرًا ووسوسة، فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه -خلقه- ونهاهم عن مرامه -طلبه- كما قال تعالى في كتابه: ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) -سورة الأنبياء- فمن سأل لـِمَ فعل -أي على وجه الاعتراض على الله- فقد ردَّ حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين”.

وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يومًا فقال: “يا غلامُ إني أعلّمُك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجدْهُ تُجاهك، إذا سألتَ فاسأل الله وإذا استعنتَ فاستعن بالله، واعلَم أن الأمةَ لو اجتمعتْ على أن ينفعوك بشىء لم ينفعوك إلا بشىء قد كتبَهُ الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشىء لم يضروك إلا بشىء قد كتبه الله عليك رُفعت الأقلامُ وجفَّت الصُحُف” رواه الترمذي في سننه وقال: هذا حديث حسن صحيح. فإذًا لا نافع ولا ضار على الحقيقة إلا الله.

الله خالق كل شىء

إن الله سبحانه وتعالى هو خالق كل شىء، وأما ما يقوله البعض: إن الله خلق الخير ولم يخلق الشر فإنه تكذيب لقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) سورة الصافات، ومن نسب لله تعالى خلق الخير دون الشر فقد نسب إلى الله العجز، ولو كان كذلك لكان للعالم مدبران مدبر للخير ومدبر للشر وهذا كفر وإشراك.

وهذا الرأي السفيه من جهة أخرى يجعل الله تعالى في ملكه مغلوبًا، لأنه حسب اعتقاد القائل به الله أراد الخير فقط فيكون قد وقع الشر من عدوه إبليس وأعوانه الكفار رغمًا عنه، ويكفر من يعتقد هذا الرأي لمخالفته قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ سورة يوسف/12 أي لا أحد يمنع نفاذ مشيئة الله.

وليس لأحد أن ينكر أن الشر هو بخلق الله تعالى، وقد أخبر بذلك فقال تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِن شَرِّ مَا خَلَقَ (2) سورة الفلق، ومن كذّب القرءان فقد كفر.

أخي المسلم إن مسألة القضاء والقدر لا يتم الإيمان إلا بها بأن يعتقد الإنسان أن كل شىء من الطاعة والعصيان والنفع والضر بمشيئة الله، خلافًا للمعتزلة فإنهم ينسبون خلق الفعل إلى العبد وقد سُمُّوا بالقدرية لأنهم نفوا القدر وقالوا: إن فعل العبد بخلق العبد وليس
بخلق الله وقدره وهذا كفر وضلال، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لكل أمةٍ مجوسٌ ومجوسُ هذه الأمةِ الذين يقولون لا قدر” رواه أبو داود، وقال ابن عباس رضي الله عنه: “كلام القدرية كفر”.

أخي المسلم، الله منَّ علينا بنعم كثيرة فعلى كل منا أن يشكر الله على نعمه بترك المحرمات وأداء الواجبات وليس للمرء العاصي أن يقول: “إذا عذّبني الله على فعل المعاصي مع أنه هو الذي قدّرها عليّ فقد ظلمني” فهذا كفر، لأن الله هو الحاكم المطلق الفعّال لما يريد قال تعالى: ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)سورة الأنبياء، الله تعالى هو الآمر المطلق الذي ليس لـه آمر، يتصرف فيـما لـه أي فيـما يـملكه ملكًا حقيقيًا ولـم يتصرف فيـما ليس لـه، والظلـم في لغة العرب هو أن يتصرف بـما ليس لـه، واللـه تعالى كل شىءٍ خلقه وملكه، لا يسأل عما يفعل وهـم أي العباد يسألون، وليس للمذنب العاصي أن يسترسل في المعاصي ويعتمد على رحمة الله وهذا يسمى في الشرع الأمن من مكرِ الله أي عقوبةِ الله وهو معصية كبيرة من معاصي القلب. فالله خلق الجنة وجعل لها أهلها وخلق النار وجعل لها أهلها وما ربك بظلّام للعبيد ومن عمل صالحًا فلنفسه ومن أساء فعليها ولا يلومنَّ إلا نفسه.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اعملوا فكُلٌّ مُيَسَّر لِمَا خُلقَ له” رواه البخاري ومسلم.

اللهم إنا نسألك أن تثبتنا على توحيدك وعلى الاعتقاد السليم إنك على كل شىء قدير.

والحمد لله رب العالمين.█