الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله. أما بعد فقد أخبرنا الله تعالى في القرءان أن بني إسرائيل كانوا قبل بعثة سيدنا موسى مستضعفين في الأرض فقد كان فرعون يُذَبِّح أبناءهم ويستحيي نساءهم فنجاهم الله من كل ذلك على يدي سيدنا موسى. وقد كان لسيدنا موسى مع قومه أخبار وحوادث كثيرة، نذكر لكم بعضها.
إن الله أوحى إلى موسى أنْ سِرْ ببني إسرائيل حتى تدخل الأرض المقدسة، فقد كتبتها لكم، فاخرج إليها فجاهد من فيها بمن معك من بني إسرائيل، فإني ناصركم. فانطلق موسى بمن معه من بني إسرائيل فقالوا: يا موسى! إنا لا نعرف الطريق، ولا علم لنا بالأرض ومدخلها ومخرجها، ورجالها وحصونها. فبعث موسى اثني عشر نقيبًا إلى الأرض، ليتحسسوا لهم الأرض، وأقام موسى مكانه وجعل عليهم يوشع بن نون وكالب بن يوفنا.
إنزال المن والسلوى لبني إسرائيل
كان في ما بين الشام وبين بني إسرائيل في مصر مفاوز ليس بها ماء فدعا لهم موسى بالرزق، فأنزل الله عليهم في مسيرهم المن والسلوى، وفجّر لهم من الحجارة عيون ماء من موضع موسى إلى أرض أريحا، وأقام موسى بمكانه، فقالت بنو إسرائيل: كيف لنا بهذا المسير البعيد الذي لا نقوى فيه على حمل الماء وصنعة الطعام؟ يعول الرجل منا أربعمائة عيل، فأي ماء يسعهم وأي طباخ يكفيهم، وأي دار تكنهم حتى تبلغهم؟ وأي خباء يسعهم؟ وليس بيننا وبين الأرض المقدسة مدائن الأسواق؛ فادع لنا ربك يكفينا مؤنة هذا السعي. فأوحى الله إلى موسى أن أعلمهم أني قد أعلمتك وأعطيتك ما سألوا، فقل لهم: أما ما سألتم من الطعام فإن الله يمطر لكم السماء بالمن خبزًا مخبوزًا طعمه كطعم الخبز المأدوم بالسمن والعسل ومسخر لكم الريح فتنسف لكم طير السلوى، فتوسعكم لحمًا ما أكلتم. وأما ما تحتاجون إليه من الماء فيفجر لكم من الحجر ماء رَواءً حيث نزلتم، فيسعكم لشربكم وطهوركم؛ وأما ما أردتم من الكن والظل، فيسخر لكم الغمام فيظلكم من فوقكم ويكنكم من البرد والحر والريح. قالوا: يا موسى! نقيم حتى يرجع إلينا النقباء، فيخرجوننا، فأمر موسى النقباء أن يسيروا، فأتوا الأرض المقدسة.
انفلاق الحجر اثنتي عشرة عينًا
ارتحل موسى ومعه بنو إسرائيل لدخول الأرض المقدسة، فكانوا إذا نزلوا ليرتاحوا ضرب موسى بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا فكانت تجري إلى كل سبط عين تدخل عسكرهم، وكانت السماء تمطر عليهم خبز المن، وتنسف عليهم الريح طير السلوى، وتذري رأسه عنه فيصير مصفى ليس فيه ريش فيصبح في العسكر ركامان عظيمان من خبز وطير، فيأكلون ويحملون.
عصيانهم أمر الله وتيههم أربعين سنة
أمر موسى عليه السلام بني إسرائيل بدخول أرض الجبارين ومقاتلتهم فخالفوا أمره وفزعوا من الجبارين لعظم أجسامهم فقال لهم رجلان وهما يوشع بن نونٍ من سبط يوسف وكالب بن يُوفَنَّا من سبط يامين ﴿ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ﴾ ســورة الــمـائـدة/23، فلما عصوهما دعا عليهم موسى، وكانوا ستمائة ألف مقاتلٍ فعاقبهم الله بالتيه أربعين سنة فتاهوا في ستة فراسخ من الأرض يمشون النهار كله ثم يمسون حيث أصبحوا، ويصبحون حيث أمسوا. بعد ذلك لما رأى من جهدهم وحيرتهم في التيه كان يدعو الله لهم في هذه الأمور لئلا يهلكوا في التيه جوعًا أو عريًا أو عطشًا، فلما آسى عليهم قال الله له: ﴿فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)﴾ سورة المائدة، أي الذين فسقوا أي خرجوا عن أمرك.
وقوف الشمس ليوشع في الفضاء
وفي التيه توفي موسى وهارون، فلما كان بعد الأربعين سنةً ناهضهم يوشع بمن معه لدخول أرض الجبارين وكان قد أوحي إليه بالنبوة بعد موسى عليه السلام، فلما كان يوم الجمعة، وكاد أن يظفر بهم ونزلت الشمس للغروب وخشي أن تغرب فلا يقاتل ليلة السبت ناداها: إنك مأمورةٌ وإني مأمورٌ، فركدت في مكانها حتى ظفر بهم.
دخول أرض الجبارين والظفر بهم
دخل يوشع ومن معه أرض الجبارين، وأصابوا غنائم كثيرةً، وكانت الغنائم لا تحل لأحدٍ من الأمم، إنما يجمعونها فتنزل نارٌ فتأكلها فجمعوا غنائم فلم تنزل النار، فقال يوشع لأصحاب الأسباط: ما هذا إلا من غلولٍ فيكم فبايعوني، فبايعوه، فلزقت يده بيد رجلٍ منهم، فقال يوشع: الغلول في سبطك اذهب فبايع أصحابك، فمن التزقت يده بيدك فهو صاحب الغلول، فذهب فبايعهم، فالتزقت يده بيد رجلٍ منهم، فقال: أخرج ما عندك، فأخرج رأس ثورٍ من ذهبٍ، عيناه من ياقوتٍ، وأسنانه من در، فنزلت النار فأكلتها.
تبديلهم لما أمروا به ومعاقبتهم بالطاعون
عند دخولهم المدينة أمروا أن يدخلوها سجدًا أي ركعًا متواضعين شاكرين لله عز وجل على ما منّ به عليهم من الفتح العظيم، الذي كان الله وعدهم إياه، وأن يقولوا حال دخولهم: “حطةٌ” أي حط عنا خطايانا التي سلفت، من نكولنا الذي تقدم منا. فخالفوا ما أمروا به قولًا وفعلًا، فدخلوا الباب يزحفون على أستاههم وهم يقولون: حبةٌ في شعرةٍ، وفي روايةٍ حنطةٌ في شعرةٍ.
وحاصله أنهم بدّلوا ما أمروا به واستهزؤوا به، كما قال تعالى حاكيًا عنهم في سورة الأعراف: ﴿وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ (162)﴾ والباب هو بابٌ من بيت إيلياء في بيت المقدس، والرجز الذي نزل من السماء هو أن أصابهم الطاعون عقوبة لهم على مخالفتهم وتحريفهم ما أمروا به.
ولما استقرت يد بني إسرائيل على بيت المقدس استقروا فيه وبين أظهرهم نبي الله يوشع يحكم بينهم بكتاب الله التوراة حتى قبضه الله.█