لن أبدأ حديثي اليوم باستخدام العبارات المعروفة التي ربما مللنا من قراءتها مرارًا وتكرارًا في كتب القراءة أو على لوحات وتصميمات يرسلها لنا أصدقاؤنا في كل صباح مع خلفيات ورود وبحر وطبيعة خلابة. لن أبدأ حديثي اليوم بعبارات “الحياة رحلة” أو “محطة الانتظار” أو غيرها مما يسمى “cliché”. إنما سأبدأ حديثي اليوم مباشرة عن عمرنا وحياتنا التي تبدأ بلحظة بكاء وتنتهي بلحظة بكاء، وبين البكاءين حياة. بين لفافتين بيضاوين كلاهما من غير جيوب، كلاهما لا يظهر منهما إلا وجوهنا، وبين اللفافتين، حياة.
ينزل الولد من بطن أمه وما هي إلا ساعة حتى يعود إلى حِجر أمه ويعود إلى سماع دقات قلبها التي تعوّد عليها وقد أعد الله له أفضل الغذاء من ثدي الأم فسبحان الله، لو تأملنا حليب الأم وما يحويه من فوائد لوقفنا عاجزين أمام عظمة الله.
يبدأ نمو الطفل شهرًا بعد آخر أمام أعين أهله. يحيط به الوالدان فرحين بوجوده ليفيضوا عليه من الحب والحنان ما يجعله سعيدًا وهو لا يدرك شيئًا من مشاق الحياة ولا يدرك ما هو مقبل عليه في الحياة الدنيا.
بعد بلوغه السنتين من عمره تبدأ ملامح الهموم بالظهور أكثر في حياة الإنسان حيث تبدأ الأم تبتعد قليلًا في مرحلة الفطام وقد يأتي أخ شقيق ليفسح له المجال فتبدأ علامة الغيرة تظهر على الابن الأول، وكثير منا لا يعلم ولا يشعر بما يحسه الولد في هذه المرحلة، ثم يبدأ مع الوقت يأنس بالشقيق الجديد وبعدها يبدآن مسيرة الحياة في اللعب والقرب من الأب والأم إلى أن يبلغ السبع سنين من العمر حيث يبدأ الأمر من قبل الأهل بأداء الصلاة والذهاب إلى المدرسة في مرحلة تعتبر من أكثر المراحل حساسية في حياة الولد. بعدها ينتقل إلى عمر المراهقة والشباب، ليعود ويمر بنفس الدورة التي مرّ بها أبواه فيتزوج ويرزق بأولاد حتى ينتبه فجأة إلى الشيب الذي بدأ يغزو رأسه فيلتفت إلى ما مرَّ من عمره ويراه لحظة… تلك هي الحياة.
من أنت في هذه الحياة؟
قد يعيش البعض منا في هذه الحياة من غير أن يترك أثرًا ولا حتى في محيطه القريب، فيكون مجرد شخص أتى إلى هذه الدنيا وخرج منها من غير أن يشعر به أحد، وقد يأتي إنسان إلى هذه الدنيا ويكون له تأثير عميق على ملايين البشر ويبقى ذكره على مدى عصور. قد لا ينجز الشخص أشياء ضخمة في حياته، قد لا يكتشف مادة الراديوم كماري كوري، قد لا يقود واحدًا من أضخم جيوش العالم كأدولف هتلر، وقد لا يترك هذا الأثر الكبير على العالم أجمع، لكن ليترك أثرًا طيبًا في قلوب من حوله. وبغض النظر عن ما يقدّمه الشخص لأهله ومجتمعه والعالم أجمع، فإن اتباع شرع الله هو الأساس، فإن اتَّبع الشخص شرع الله، يكون قد اتقى الله في نفسه وأهله ومجتمعه والناس من حوله.
“كِنّا رحنا فيا”
عبارة تمتزج فيها مشاعر متعددة بين الخوف والفرح والندم وغيرها من المشاعر. وعادة ما نستعمل هذه العبارة إذا حصل معنا أمر كاد يوصلنا إلى الموت. ولكن ماذا لو لم ينج هذا الشخص؟ فأي شخص منا معرض لأن يتعرض إلى حادث معين ولا ينجو منه فيصير الفقيد الغالي أو الفقيدة الغالية.
وعند الكلام عن هذه الأمور خاصة في مجتمعاتنا يبدأ بعض كبار السن بالتضايق والانزعاج ويقولون لا تتكلموا بهذا الموضوع أو غيّروا الموضوع، خاصة إذا ذكر أمامهم قصة حادث سير، أو ذكر أمامهم موضوع مرض خطير.
الموت سيدركنا لا محالة كل في وقته، ولو كنا جالسين في بيوتنا أو متحصنين في أعلى البروج، لا يحتاج إلى إذن منا، ولا ينتظر عبارة نقولها. كذلك لا يحتاج إلى تبرير، فقد تكون زلة قدم، أو غصة ماء، أو حادث سيارة، أو مرض معين. لكن يبقى الوهم عند البعض أن هذا الكلام قد يقرب موعد توقف نبضات القلب.
ولكن ماذا بعد الموت؟ ماذا بعد أن يموت الناس الطيبون في حياتنا؟
بعد موتهم نعي قدرهم، ويصبح لهم مآثر وذكريات يتسابق الذين بقوا على وجه الدنيا لذكرها.
فحين يموت الأشخاص المقربون منا خاصة الطيبين منهم، نحك رؤوسنا لتحفيز ذاكرتنا لنتذكر مواقف جمعتنا بهم، لنتذكر الأحاديث التي تكلمنا بها معهم. نهرع إلى حواسيبنا لنبحث فيها عن صورة تجمعنا معًا، نغضب من هواتفنا النقالة ونندم على “Update” محا محادثاتنا معهم.
لكن هل حقًا كانوا يعنون لنا قبل ذلك، ولماذا نسعى كل هذا السعي إلى تذكرهم والتقرب منهم بعد وفاتهم، في حين كنا نراهم يوميًا في حياتهم، وربما لم نسلم عليهم، أو ربما كانوا مجرد اسم إضافي في لائحة الأسماء في هواتفنا.
علامة تعجب
حقيقة… في كل مرة أرى أولئك الناس الذين يمضون أيامهم سعيًا وراء المال والدنيا، تلمع في ذهني علامة تعجب. وكأنهم أرادوا الدخول إلى الدنيا والخروج منها من دون أن يأخذوا معهم شيئًا إلى تلك الحفرة، أو حتى على الأقل من غير أن يتركوا بصمة جميلة في المحيط الذي يعيشون فيه، عجبًا لهؤلاء الناس.
كتب أحد الأدباء اللاتينيين مرة أن الحياة الدنيا هي القطار وليست المحطة. على الرغم من صغر عبارته إلا أنها تحوي الكثير من المعاني. فلو تفكرنا حقيقة في حياتنا وحياة من سبقنا من آبائنا وأجدادنا نرى أن أحدًا منا لم ولن يستقر في هذه الدنيا، فهي دار ممر وليست دار مستقر.
إذًا كل منا يختار ما سيعمله بين تلك اللفتين البيضاوين، إما أن يعمل خيرًا وإما أن يكون مجرد رقم في إحصاءات النمو السكاني.█