علمتني الأيام أشياء كثيرة، وكل تجربة أو موقف مررت به في حياتي جعلني أكثر انتباهًا ووعيًا عمّا قبل. وللمفارقة فإنّ التجارب الأقسى هي التي جعلتني أقوى.
ومن هذه المواقف القاسية، حادثة حصلت في العاشر من تشرين الأول من العام 1995 وهو اليوم الذي توفيت فيه أختي الصغيرة التي لم يتجاوز عمرها أصابع اليد الواحدة. لا أتكلّم عن التغيّر الذي حصل بسبب حادثة الوفاة بذاته إنّما ما تلاها من حدث أقل أهمية بكثير لكنه ترك ألمًا لا تزال آثاره ترافقني إلى يومنا هذا…
تلك السنة كانت قاسية جدًّا علينا على الصعيد الأسري… ففي إحدى لياليها، وهي التي صادفت مرور ثلاثة أشهر على رقود أختي في المستشفى، دعوت صديقتي إلى تناول العشاء معي. أحببت أن أراها وأن ترافقني فالضغط علينا كان كبيرًا لذا أحسست بالحاجة لوجود شخصٍ قريبٍ مني إلى جانبي لعلّه يخفّف ألمي على حالة أختي الصحّيّة. إلا أنّ حالتها ساءت عند الظهيرة، فاتصلت بصديقتي معتذرةً عن اللقاء لأنّ الجو الأسري كان متأثّرًا جدًّا بذلك.
مرت الساعات وهبط الليل على مدينتنا ومع العتمة التي هجمت نزل البلاء علينا وحلت المصيبة التي كنا نطردها من خواطرنا كلّما راودتنا خلال مدّة المرض… لقد دخلت الضعيفة الصغيرة في غيبوبة استمرت لساعات طويلة علينا… تلتها الوفاة.
صبرنا على مصيبة الوفاة الأليمة رغم قسوة الفراق ولوعته، وسلّمنا بقضاء الله وقدره، فلقد تربينا على حسن التوكل على الله في الأمر كله. كانت نعمة من رب العالمين علينا أننا لم نغفل عن ترداد ﴿إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾…. صبرنا على الوفاة التي كنا نتوقعها لحرج حالة أختي الصحية… لكنني لم أتقبل ما حصل بعد ذاك اليوم.
جاءت الوفود للتعزية… فمعارف والدي ومحبوه، ولله الحمد، كثر…
كنا لا نعرف من يدخل إلينا ومن يخرج… كانت الزحمة تعم جميع أرجاء المنزل، ولم يكد يخلو كرسي في الصالون إلا ويمتلئ في لحظات… حتى أظن أن بعض من جاءنا للتعزية لا تربطه بنا معرفة شخصية ولكنّه جاء رفقًا بحال أسرة خسرت طفلتها. كنا رغم وجع أختي وضعفها، نراها بهجة المنزل وبريقه… ضعفها هذا كان يمدّنا بالقوّة لأنّها ورغم مرضها كانت تشع حيويةً وفرحًا.
أتت نسوة كثر من بينهن صديقاتي في المدرسة ممن هن أكبر سنًا مني أو أصغر، وحتّى ممّن لم يكنّ في صفي. لم أكن أعرف أسماء من يأتينني للتعزية لكن حضورهن أشعرني بكثير من التعاطف…
مرّ أسبوع أو أكثر وهدأ المنزل… أبي… أمي… أنا… وإخوتي… عدنا إلى بعضنا بعدما حال بين اجتماعنا اكتظاظ بيتنا بالمحبين من المعزين المتعاطفين والمحزونين لحزننا…
لم أكن في وضع يسمح لي أن أتفقد سجل “الحضور والغياب” ولست من الأشخاص الذين يعتبون على من لم يتح له وقته أو ظروفه بالقيام بتعزية أو تهنئة…
ولكنني… في هذه الحالة… عتبت… وبشدة…
أين صديقتي التي أحتاج لوجودها الآن؟ ألم نكن على موعد في نفس يوم الوفاة؟
صرت ألتمس الأعذار تلو الأعذار… لعلها لم تعلم بحادثة الوفاة… لعل أمرًا منعها من القدوم إلينا…
لكنني بحاجة إلى صديقة… كنت بحاجة إلى صديقة أستمدّ منها القوة في أشدّ لحظات ضعفي… صديقة تفهم صمتي عندما لا يسعني التعبير… أين هي؟
ولكن عودتي إلى المدرسة للانضمام إلى صديقاتي، في أواخر تشرين، بعد غياب أسبوعين فسّر كلّ شىء… لم تقل أيّ شىء واكتفت بتوجيه نظرها إلى الأرض عندما التقت أعيننا. فاقتربت منها وقلت بصوتٍ خافت ضعيف يختصر وجعي: “لقد كنت أنتظر مجيئك لمواساتي” فأتت إجابتها كالصاعقة عليّ: “أنت من ألغى الموعد يا عزيزتي، ظننت أن هذا يناسبكم أكثر…”. إجابتها صدمتني وتهافتت الأفكار: “ألغيت الموعد وليس التعزية”، “ألغيت العشاء لعجزي عن إعداده وليس رفقة من أحبّ وأحتاج…”، إلا أنّني لم أنطق بكلمة. استدرت ومشيت وتعلّمت أنّ المواقف تدفعك إلى اكتشاف الأصدقاء الحقيقيّين وإلى إعادة ترتيب علاقتك بمن كنت تظنّهم أصدقاء… وهم ليسوا سوى رفقة عابرين.