كان يمسك بيدها ويسير معها ليوصلها إلى منزلها… خطواتها كانت متثاقلة جدًا… عجوز هي تجاوزت السبعين من عمرها… تمشي قليلًا وتقف لتستريح… حزينة هي… أوقفت ابنها في وسط الشارع وقالت له: أرجوك حبيبي… لا تأخذني إلى بيتي… أريد البقاء عندك… أرجوك… أعدك ألا أسبّب أي إزعاج لك أو لزوجتك… أرجوك… أنت حبيبي أريد تمضية ما بقي من عمري عندك…

وقف وليد حزينًا… أم وليد كبيرة في العمر… كانت مريضة قبل عدة أشهر… كان صعبًا أن تبقى وحدها في بيتها… اصطحبها إلى منزله لتجد العناية من زوجته وأولاده… لكن الأمور توترت في الأيام الأخيرة… فطلبت أم وليد من ابنها أن يصطحبها إلى منزلها… هناك ستشعر بالراحة أكثر. وها هي الآن تريد العودة إلى بيته… كاد يبكي في وسط الشارع… إنها والدته التي حضنته في صغره… كم تحمّلت منه وصبرت… فهل يقابل معروفها إلا بالمعروف… الآن وقد شاب شعرها… وصار أبيض بلون الثلج؟ الآن يتركها… رَحِمَتْه كثيرًا في طفولته وفي شبابه… هي أمه… أيتركها وحيدة حزينة وهي من أشد الناس حاجة إليه؟

في الشارع نفسه الذي تسكن فيه أم وليد… تتردد امرأة عجوز… انحنى ظهرها… وتبدو آثار السنين على وجهها… حزينة عيونها… تمشي بصعوبة وتحمل على ظهرها كيسًا تضع فيه بعض الأشياء تعرضها على الناس في الشارع… تبيع ما تيسر لها أن تبيعه… حتى تستطيع أن تؤمن لقيمات تأكلها آخر النهار… كانت أم وليد توقفها أحيانًا… تشتري منها أشياء ربما لا تكون بحاجة إليها… لكن كانت تقول: مسكينة هذه العجوز… أين أهلها؟ أين أولادها؟ لم لا يعطفون عليها؟ وكان يخطر على بالها وتتساءل… ترى هل سيتركني أولادي يومًا كما تركها أولادها؟

في أحد الأيام كنت أنتظر سيارة أجرة.. مرَّ بقربي سائق كبير في العمر… وقد كسى الشيب رأسه بالبياض الناصع… ركبت السيارة وجلست بقربه… كانت يداه ترتجفان وهو يمسك مقود السيارة… نظره ضعيف لا يكاد يبصر أمامه… هو حكى لي دون أن أسأله… قال: أولادي همومهم كبيرة… لا يملكون ما يزيد عن حاجاتهم لكي ينفقوا علي… لذا تراني أعمل كما ترى لأنفق على نفسي وعلى العجوز التي تنتظرني في المنزل…

صور كثيرة تراها من حولك تحكي قصصًا معبرة… عن الوفاء لمن أحسن إلينا… أو عن التخلي عنهم… البعض يعامل أهله بالإحسان، وبعضهم يعاملهم بالإهمال… أذكر أني رأيت صورة لشاب يحمل أمه فوق رأسه ويطوف بها حول الكعبة… صورة جميلة عن الوفاء لمن حملته في صغره بكل فرح… يحملها الآن وهي بحاجة إليه…

ذكر لي صديقي أنه يتمنى وقد بلغ من العمر ما تجاوز الستين… أن يمضي ما تبقى من عمره في أحد المساجد… ينوي الاعتكاف.. ويصرف وقته في تعلم أمور الشرع وتعليمه، فهو لا يدري متى يدركه الموت ويرحل عن هذه الدنيا… وهو يحب أن يرحل عن هذه الدنيا على طاعة. وردّد هذه الكلمات:

احفظ لشيبك من عيب يدنسه

 

إن البياض قليل الحمل للدنس

أحد زملائي في التعليم كان مشهورًا بالسعي في أمور الدنيا… ينتقل من مدرسة لأخرى، ويعطي الدروس الخصوصية بكثرة حتى اشتهر عنه أنه يدرّس وقت السحور في رمضان… وكان ينفق ما يجمعه من مال في بناء منزل كبير له في إحدى القرى… لكن عندما أنهى العمل فيه، مات قبل أن يسكنه…

في حياتنا نرى الكثير من العبر… لكن القليل من يعتبر… من أعطاه الله من العمر حتى رأى البياض يغزو شعره.. ماذا ينتظر؟ الموت يدرك الصغار والكبار… لا أحد يدري متى الرحيل… سمعت من أحد المشايخ الطيبين هذه الكلمات: روى الحافظ أبو نعيم في الحلية: عن وهب بن منبه قال: قرأت في بعض الكتب أن مناديًا ينادي من السماء الرابعة: “يا أبناء الأربعين أنتم زرع قد دنا حصاده، يا أبناء الخمسين ماذا قدمتم وماذا أخرتم، يا أبناء الستين لا عذر لكم”.

واعلموا يا أبناء العشرين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك” رواه البيهقي.

فالعاقل يغتنم شبابه قبل هرمه، فلا ينبغي أن يكون الشاب غافلًا عما يستطيع أن يفعله لآخرته قبل أن يدركه الهرم.

أعاد وليد أمه إلى منزله… طلب رضاها عنه… قال لها: أمي أنت تحمّلت مني ومن إخوتي الكثير…

أنا لن أنسى فضلك علي وعلى أبنائي…

العمر قصير… لا تصرفه بالتقصير.█