سبحان الله ما أغرب ذاكرة الإنسان، فكثيرًا ما يسترجع فيها أحداثًا ولحظات تركت أثرًا في النفس، ومن أقرب المراحل إلى قلوبنا وأكثرها استحضارًا هي مرحلة الطفولة، يوم كانت الأحلام صغيرة ولم نكن نعي معنى كلمة “هموم الحياة” أصلًا ولا فحوى كلمة “مسؤولية”، لكن لم نبق أطفالًا بل كبرنا وكبرت معنا مسؤولياتنا وسنتعرف تباعًا على همومنا.
فالدخول إلى المدرسة والابتعاد عن حضن الأم له ذكرى راسخة في نفوس الكثيرين، وهو من أول التجارب والمسؤوليات، فعندما ندخل إلى المدرسة علينا أن نعتمد على أنفسنا، فأمهاتنا اللواتي اعتدنا على رعايتهن لكل شؤون حياتنا اليومية ليسوا معنا. ويبدأ مع هذه المرحلة تحمل المسؤولية الأولى وهي أن ننجح في دراستنا، وهكذا تستمر رحلة الدراسة…
وفي اليوم الذي تتخرج فيه من الجامعة وتحمل شهادة تثبت نجاحك وتفوقك أحيانًا في اختصاص معين تكون انتهت رحلة الدراسة، ولكن انتبه… لم تنته رحلة الصعوبات بل اليوم بدأت، وكل ما سبق لك من مسؤوليات غالبًا ما ستتلاشى مكانتها أمام ما ستواجهه من تحديات ومسؤوليات جديدة. ففي هذه المرحلة ستسعى للدخول إلى سوق العمل، كي تؤسس نفسك وتبني أسرتك وهنا التحدي…
ليس سهلًا أن تحجز لنفسك مقعدًا في حافلة للركاب فيها خمسة مقاعد ويستقلها نحو ألف شخص، بل لتحجز لنفسك مقعدًا تحتاج أن تثبت أنك الأكفأ من بين الألف، ومثل هذا حال سوق العمل، والأهم من الحصول على فرصة العمل مع صعوبتها هو أن تعمل في الحلال، وتكسب من الحلال، وتأكل أنت وأهلك وعيالك من الحلال، فلقد روى البيهقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “كلُّ جسدٍ نبتَ من سُحتٍ فالنَّارُ أولى به“، والسُّحت هو المال الحرام، فإياك والحرام فإن الخوض في الحرام وبال على صاحبه ويعرضه لغضب الله وعذاب النار.
وهكذا تتوالى التحديات بوجه كل شاب، وأبرز هذه التحديات هو إيجاد منزل يأويه ويجمع بينه وبين زوجته ليبنيا أسرتهما، وفي ظل ظروف سوق العمل الصعبة جدًا حيث الآلاف تتقدم للوظائف والمطلوب قلة قليلة ينهار مستوى الرواتب إلى أدنى حدود بالتزامن مع صعود سريع لأسعار الشقق، مما يجعل الواحد منا يقف كالمذهول، ففي معادلة بسيطة وهي أنه إن تخرج الشاب بعمر الواحد والعشرين وبدأ بالعمل منذ لحظة خروجه من باب جامعته وتلقى راتبًا قيمته ألفا دولار وهذا أقرب للخيال في لبنان، وصرف منه ألفًا على معيشته وأهله وادخر منه ألفًا فهو يحتاج نحو مائتي وخمسين شهرًا ليشتري شقة في بيروت تتسع له ولزوجته وأولاده، وهكذا يبدأ رحلة بناء أسرته وقد أصبح بعمر الواحد والأربعين!!! أو يدخل في مجال الإيجار ويبقى كل عمره تحت خطر الطرد فيما لو لم يلبِّ رغبة صاحب العقار بالزيادة وغالبًا لا يستطيع تلبية تصاعد هذه الرغبة السريع، فيصبح هو وزوجته وأولاده في الشارع.
لذا بناء على ما تقدم ولكل شاب أقول: مهما بلغت التحديات ومهما بلغت الصعوبات إياك واللجوء إلى طرق الحرام وإن غرّك الشيطان وشياطين الإنس بأن هذا الطريق فيه مال وفير، بل أصِرَّ أكثر على التمسك بالحلال، واعمل على جمع قرشك الأبيض وابتعد عن الحرام لتبقى كالثوب الأبيض المنقى من الدنس.█