الحمد لله ربّ العالمين، أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدّين كلّه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والذين اتّبعوهم بإحسانٍ وسلّم تسليمًا كثيرًا. 

أما بعد فقد قال الله تعالى: ﴿وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ سورة النحل/60، أي لله تعالى الوصف الذي لا يشبه وصف غيره، فلا يوصف ربنا عزَّ وجلَّ بصفات المخلوقين من التغيّر والتطور والحلول في الأماكن والسُّكْنى فوق العرش، تعالى اللهُ عن ذلك علوًّا كبيرًا. وقال المفسِّر اللغوي أبو حيان الأندلسي في تفسيره: “﴿وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ أي الصفة العليا من تنزيهه تعالى عن الولد والصاحبة وجميع ما تنسب الكفرةُ إليه مما لا يليق به تعالى كالشبيه والانتقال وظهوره تعالى في صورة”ـ.

ومما يدل على ما قدّمنا قول الله تعالى: ﴿فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ﴾ سورة النحل/74، أي لا تجعلوا لله الشبيهَ والـمِثْل فإن الله تعالى لا شبيه له ولا مثيل له، فلا ذاتُه يشبه الذواتِ ولا صفاتُه تشبه الصفاتِ. قال الله تعالى: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)﴾ سورة مريم، أي مِثلًا، أي أن الله تعالى لا مثل له، فالله تعالى لا مِثْلَ له ولا شبيه ولا نظير، فمن وصفه بصفة من صفات البشر كالقعود والقيام والجلوس والاستقرار يكون شَبَّهَهُ بهم، ومن قال بأن الله يسكن العرش أو أنه ملأه يكون شبّه الله بالملائكة سُكّان السّموات. وهذا الاعتقاد كفر والعياذ بالله تعالى لتكذيبه قول الله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ سورة الشورى/11، وقول الله تعالى: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)﴾ سورة مريم.

فالله تعالى هو الأول أي الأزلي الذي لا ابتداء لوجوده، كان ولم يكن مكانٌ ولا زمان ثم خلق الأماكنَ والأزمنة ولا يزال موجودًا بلا مكان، لا يطرأ عليه تغيّر لا في ذاته ولا في صفاته. وقال الله تعالى: ﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) سورة الإخلاص، أي لا نظير له بوجه من الوجوه.

الأجسام على نوعين جسمٌ كثيفٌ وجسمٌ لطيفٌ. فأما الجسم الكثيف فهو ما يُضبَط باليد أي يُجسّ باليد كالإنسان والشّجر والحجر والسّموات والأرض والكواكب والشّمس والقمر. وأما الجسم اللطيف فهو ما لا يُضبَط باليد أي لا يُجسُّ باليد كالظُّلُمات والنّور والرّوح والهواء والجنّ والملائكة.

قال الله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ سورة الأنعام/1. ففي هذه الآية دليل على أنَّ الله ليس جسمًا كثيفًا كالسّموات والأرض وليس جسمًا لطيفًا كالظّلمات والنّور لأنه لا يمكن أنْ يُشبِه خلقه لأنه لو كان يُشبِه شيئًا من خلقه لجاز عليه ما يجوز على خلقه من التغيُّر والعجز والضّعف لأنَّ المتماثلات يجوز عليها ما يجوز على بعضها ولو جاز عليه ذلك لاحتاج إلى مَن يُغيّره من حال إلى حال، والمحتاج إلى الغَير لا يكون إلهًا فـثبتَ أنه ليس جسمًا كثيفًا ولا لطيفًا، وقد قال الإمام أبو حنيفة في الفقه الأكبر: “أنَّى يُشبهُ الخالقُ مخلوقَهُ” معناه لا يَصحُّ عقلًا ولا نقلًا أن يُشبِه الخالقُ مخلوقَهُ.

وأما الدليل العقلي على بطلان عقيدة أن الله جسم فهو أن الجسم له حد ومقدار فيحتاج إلى من حدّه بذلك الحد، فالعرش خَلَقَهُ الله تعالى على الحدّ الذي هو عليه، الله يعلمه ونحن لا نعلمه، وكذلك السموات السبع حدّها بحدٍّ يعلمه ولا نعلمه، كذلك الأرض محدودة بحد يعلمه الله ولا نعلمه، كذلك سائر الأجرام العلوية والسفلية لها حد. فيستحيل أن يكون خالق هذه الأجسام جسمًا فالجسم لا يكون إلا حادثًا والحادث لا يُوجِد المعدومَ من العدم إلى الوجود.

تنزيه الله عن الجهة والمكان

روى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “كان الله ولم يكن شىء غيره” معناه أن الله كان موجودًا في الأزل ليس معه غيره، لا أرض ولا سماء ولا كرسي ولا عرش ولا مكان ولا جهات فهو تعالى موجود قبل المكان بلا مكان، وهو الذي خلق المكان فليس بحاجة إليه.

قال الإمام البيهقي في كتابه الأسماء والصفات: “استدل بعض أصحابنا في نفي المكان عنه -أي عن الله عز وجل- بقول النبي صلى الله عليه وسلم: “أَنْتَ الظَّاهِرُ فليس فَوْقَكَ شَىء وأنتَ البَاطِنُ فليس دُونَكَ شَىء” -رواه البخاري- وإذا لم يكن فوقه شىء ولا دونه شىء لم يكن في مكان”.

ومن الأحاديث الدالة على تنزيه الله عن الجهة ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أقربُ مـا يكـونُ الـعبدُ مِـن ربّـه وهـو سـاجـد، فـأكـثـروا الـدُّعـاء” قال الحافظ جلال الدين السيوطي الشافعي: “قال البدر بن الصاحب في تذكرته: في الحديث إشارة إلى نفي الجهة عن الله تعالى”.

وروى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى فأشار بظهر كَفَّيْه إلى السماء، أي أن النبي جعل بطون كفَّيْه إلى جهة الأرض، وفي ذلك إشارة إلى أن الله عز وجل ليس متحيّزًا في جهة العلو كما أنه ليس متحيزًا في جهة السُّفل.

قال مصباح التوحيد الصحابي الجليل والخليفة الراشد سيدنا علي رضي الله عنه: “كان -أي الله- ولا مكان، وهو الآن على ما -عليه- كان” أي بلا مكان، وقال أيضًا: “إن الله تعالى خلق العرش إظهارًا لقدرته لا مكانًا لذاته”، رواهما أبو منصور البغدادي في كتابه الفرق بين الفرق. وقال رضي الله عنه: “سيرجع قوم من هذه الأمة عند اقتراب الساعة كفارًا يُنكرون خالقهم فيصفونه بالجسم والأعضاء” ذكره ابن المعلّم القُرشي في كتابه نجم المهتدي ورجم المعتدي. وقال رضي الله عنه: “من زعم أن إلهنا محدود فقد جهل الخالق المعبود” رواه أبو نُعيم في حلية الأولياء، وقال أيضًا: “إن الذي كيّف الكيف لا يقال له كيف” رواه الإسفراييني في التبصير.

كلام الله لا يشبه كلامنا

كلام الله تعالى أزلي أبدي لا يشبـه كلام الـمخلوقين، لأن كلام الـمخلوقين حادثٌ، فكلام الإنسان صوت يعتمد على مخارج ومقاطع ويُبتَدأ ويُختَتم ويكون بلُغاتٍ وحُروف. ومن الأدلة على أن كلام الله ليس بحرف ولا لغة قوله تعالى: ﴿أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) سورة الأنعام، فقد وصفَ الله نفسَه بأنّه أسرع الحاسبين، أسرع من كلّ حاسب من عباده.

فالله تعالى يحاسب الخلقَ الإنس والجن يوم القيامة، فيَسمَع كلُّ واحدٍ كلامَ الله الذي ليس حرفًا ولا صوتًا، وذلك أنّ الله تعالى يُزيل الحجابَ المعنويَّ عن سمْعهم فيسمعونَ كلام الله الذاتيّ الذي ليس بصوت ولا حرف ولا لغة، فالكافرُ عندما يسمعُ كلام الله لا يُسرُّ، أما المؤمنُ التقيّ فإنّه يُسرُّ عندما يسمعُ كلام الله يوم القيامة، الجنّ من إبليس إلى نهاية ذريته يُسمعهم الله كلامه، والبشرُ من آدم إلى آخر فردٍ من ذريته يُسمعهم الله كلامَه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما منكم من أحد إلا وسيُكَلِّمُه الله يومَ القيامة ليسَ بينَ الله وبينَه تُرجُمان” رواه البخاري.

إبليس وحده عاش آلاف السنين لأنّه خُلقَ قبل آدم بزمان ويعيش إلى يوم النفخ في الصُّوْر، فلو كان الله يحاسبه بالحرف والصوت أو يتكلم بالحرف والصوت كما يدّعي البعضُ لكان ذلكَ يأخذ آلافًا من السنين ولم يكن أسرعَ الحاسبين بل كان أبطأ الحاسبين، ولكن الله تعالى وصف نفسَه بأنه أسرع الحاسبين.

وأما قولُه تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) سورة يس، فليس معناهُ أن اللهَ ينطق بحرف الكاف والنون الذي هو من لغة العرب، وذلك لأن الله كان قبل اللغات. ولا يجوزُ أن يكونَ قبل اللغاتِ لا يتكلمُ ثم بعدَ أن خلقَ اللغات تكلم، لأن هذا معناهُ أن الله حادث، والله سبحانه قديم أزليّ ليس بحادث. وإنما معنى هذه الآية المذكورة أن الله يخلق الشىء الذي أرادَ وجودَه بدون مشقّة ولا تعب ولا تأخُّر عن الوقت الذي أراد وجودَه فيه، وذَكَر كلمة “كن” في القرءان ليفهمنا أن هذا الأمر هيّن عليه ليس صعبًا، كما أنَّ الإنسان إذا أراد أن يقول: “كن” ينطق بالكاف والنون ويكون هذا أسهل شىء على الإنسان فلا يكلّفه تعبًا.

اللـه تعالى يَعلـم بعلـمه الأزليّ كلَّ شىء، يعلـم ما كان وما يكونُ وما لا يكونُ، ولا يقبلُ علـمهُ تعالى الزيادةَ ولا النقصانَ فـهـو سـبـحـانـه وتـعـالـى مـحـيـطٌ عـلـمًا بالكائنات التي تـحدُثُ إلى ما لا نـهاية لـه، قال الله تعالى: ﴿وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) سورة الأنعام.

أما قول اللـه تعالى: ﴿قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ سورة النـمل/65، فالـمنفيُّ عن الـخلْقِ علـم جـميع الغيبِ، أما بعضُ الغيب فإن الله يُطلِعُ عليه بعض البشر وهـم الأنبـياءُ والأولياءُ والـملائكةُ، وأما من ادَّعى أن الرسول صلى الله عليه وسلم يَعلـم كلَّ ما يَعلـمهُ اللـه فقد ساوى الرسولَ باللـه وذلك كُفرٌ. ومـما يُردُّ بـه على من يقول ذلك قولـه تعالى: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ سورة الأنعام/59

والله تعالى أعلم وأحكم.█