هو هَرِم بن حيان العبدي الأزدي من بني عبد القيس، قائد فاتح من كبار النساك من التابعين، كان ثقة وله فضل وعلم وكان أحد عمال عمر بن الخطاب، ولقي أويسًا القرني، وكان من عقلاء الناس وعلمائهم.
سبب تسميته هرمًا
قيل سُمّي هَرِمًا لأن أمه حملت به سنتين حتى طلعت أسنانه.
من كلامه رضي الله عنه
من أقواله رضي الله عنه: “أعوذ بالله من زمان يمرد -يطغى- فيه صغيرهم. ويأمل فيه كبيرهم. وتقترب فيه آجالهم”.
وكان هرم بن حيان يخرج في بعض الليل وينادي بأعلى صوته: “عجبتُ من الجنة كيف ينام طالبها وعجبتُ من النار كيف ينام هاربها ثم قرأ: ﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ (97)﴾ سورة الأعراف، ثم يقرأ “والعصر” و”ألهاكم” ثم يرجع إلى أهله”.
وكان رضي الله عنه يقول: “ما أقبل أحد بقلبه على الله تعالى إلا أقبل الله تعالى بقلوب أهل الإيمان إليه حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم”، معناه يجعل الله تعالى له مودة في قلوب المؤمنين والملائكة يوم القيامة.
ومن أقواله رضي الله عنه أيضًا: “ما عصى الله عز وجل كريمٌ، ولا آثر الدنيا على الآخرة حكيمٌ”.
صحبته لصاحب رسول الله
بات هرم بن حيان عند حُمَمة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبات حُمَمة باكيًا حتى أصبح، فلما أصبح قال له هرم: يا أخي ما أبكاك الليلة؟ قال: “ذكرت ليلة صبيحتها تناثر الكواكب” قال: وبات حُمَمة عند هرم ليلة أخرى، فبات هرم ابن حيان باكيًا حتى أصبح، فلما أصبح قال له حُمَمة: يا أخي ما أبكاك الليلة؟ قال: “يا أخي ذكرت ليلة صبيحتها تبعثر القبور للمحشر” وكانا إذا أصبحا غدوا، فمرا بكورة الحدادين -التي يوضع فيها الجمر- كيف ينفخ عليها، فيقعدان، ويبكيان، ويستجيران الله من النار. ثم يأتيان أصحاب الرياحين، فيقفان، فيسألان الله الجنة ثم يدعوان بدعوات ويفترقان.
هرم بن حيان وأويس القرني
مرة حدّث عمر بن الخطاب أصحابه عن أويس القرني رضي الله عنه فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “يدخل الجنة بشفاعته -أي بشفاعة أويس- مثل ربيعة ومضر” فقال هرم بن حيان العبدي: فلما بلغني ذلك قدمت الكوفة فلم يكن لي بها هم إلا أويس القرني أطلبه وأسأل عنه، حتى وجدته جالسًا وحده على شاطئ الفرات نصف النهار، يتوضأ ويغسل ثوبه، فعرفته بالنعت، فإذا هو رجل لحم، آدم شديد الأدمة -والأدمة:
السمرة-، أشعر، محلوق الرأس -يعني ليس له جمة – كث اللحية، عليه إزار من صوف، ورداء من صوف، بغير حذاء، كبير الوجه، مهيب المنظر جدًا، فسلمت عليه، فردّ علي ونظر إلي، فقال: حيّاك الله من رجل، فمددت يدي إليه لأصافحه، فأبى أن يصافحني، فقلت: رحمك الله يا أويس وغفر لك، كيف أنت رحمك الله؟ ثم خنقتني العبرة من حبي إياه، ورقتي له لما رأيت من حاله، ثم قال أويس: وأنت رحمك الله يا هرم بن حيان كيف أنت يا أخي؟ من دلّك علي؟ قلتُ: الله، قال أويس: لا إله إلا الله سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولًا، قال هرم: وحين سمّاني والله ما كنت رأيته قط، ولا رآني. ثم قال هرم: من أين عرفتني، وعرفت اسمي، واسم أبي، فوالله ما كنت رأيتك قط قبل هذا اليوم، فقال أويس: نبَّأني العليم الخبير، عرفت روحي روحك حيث كلّمت نفسي نفسك، إن المؤمنين يعرف بعضهم بعضًا، وإن لم يلتقوا، وإن لم يتكلموا ويتعارفوا، وإن نأت بهم الديار، وتفرقت بهم المنازل، قال هرم: قلتُ: حدثني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث أحفظه عنك، قال: إني لم أدرك
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تكن لي معه صحبة، ولقد رأيت رجالًا قد رأوه، وقد بلغني من حديثه كما بلغكم، ولست أحب أن أفتح هذا الباب على نفسي أن أكون محدثًا أو قاضيًا ومفتيًا، في النفس شغل يا هرم بن حيان، فقلتُ: يا أخي، اقرأ علي آيات من كتاب الله أسمعهن منك، فإني أحبك في الله حبًّا شديدًا، وادْعُ بدعوات، وأوص بوصية أحفظها عنك، قال هرم: فأخذ أويس بيدي على شاطئ الفرات وقال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، ثم شهق شهقة، وبكى مكانه، ثم قال: قال ربي تعالى ذكره، وأحق القول قوله، وأصدق الحديث حديثه، وأحسن الكلام كلامه: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ﴾ حتى بلغ قوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَن رَّحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)﴾ سورة الدخان، ثم شهق شهقة، وسكت فنظرتُ إليه، وأنا أحسبه قد غُشي عليه، ثم قال: يا هرم بن حيان مات أبوك، ويوشك أن تموت -أي قَرُبَ أجلُك-، ومات أبو حيان، فإما إلى الجنة وإما إلى النار، ومات آدم، وماتت حواء يا ابن حيان، ومات نوح وإبراهيم خليل الرحمن، ومات موسى، ومات داود يا ابن حيان، ومات محمد رسول الرحمن، ومات أبو بكر خليفة المسلمين، ومات أخي وصفيي وصديقي عمر بن الخطاب، ثم قال: واعمراه رحم الله عمر، وعمر يومئذ حي، وذلك في آخر خلافته، فقال هرم: رحمك الله، إن عمر بن الخطاب بعد حي، فقال أويس: بلى، إن تفهم فقد علمتَ ما قلتُ أنا، ثم صلّى على النبي صلى الله عليه وسلم، ودعا بدعوات خفاف، ثم قال: هذه وصيتي إليك يا هرم بن حيان، كتاب الله، واللقاء بالصالحين من المسلمين، والصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، ولقد نُعِيَتْ إليّ نفسي، ونَعَيْتُك فعليك بذكر الموت، فلا يفارقن قلبك طرفة وأنذر قومك إذا رجعت إليهم، وانصح أهل ملتك جميعًا، واكدح لنفسك وإياك إياك أن تفارق الجماعة فتفارق دينك وأنت لا تعلم فتدخل النار يوم القيامة، ثم قال أويس: اللهم إن هذا يزعم أنه يحبني فيك، وزارني من أجلك، اللهم عرفني وجهه في الجنة، وأدخله علي زائرًا في دارك دار السلام، واحفظه ما دام في الدنيا حيث ما كان، ورضّه من الدنيا باليسير، وما أعطيته من الدنيا فيسره له، واجعله لما تعطيه من نعمتك من الشاكرين، واجزه خير الجزاء، استودعتك الله يا هرم بن حيان، والسلام عليك ورحمة الله، ثم قال لي: لا أراك بعد اليوم رحمك الله، فإني أكره الشهرة، والوحدة أحب إلي لأني شديد الغم كثير الهم، ما دمت مع هؤلاء الناس حيًّا في الدنيا، ولا تسأل عني، ولا تطلبني، واعلم أنك مني على بال، وإن لم أرك، ولم ترني، فاذكرني وادع لي، فإني سأذكرك وأدعو لك إن شاء الله تعالى، قال هرم: فحرصتُ على أن أسير معه ساعة فأبى عليّ، ففارقته يبكي وأبكي، وجعلت أنظر في قفاه حتى دخل في بعض السكك، فكم طلبته بعد ذلك، وسألت عنه، فما وجدت أحدًا يخبرني عنه بشىء، فرحمه الله وغفر له، وما أتت علي جمعة إلا وأنا أراه في منامي مرة أو مرتين.
إني أخاف الداهية الكبرى
خرج هرم بن حيان وعبد الله بن عامر يقصدان الحجاز فجعلت أعناق رواحلهما تخالجان الشجر، فقال هرم لابن عامر: “أتحب أنك شجرة من هذه الشجر” فقال ابن عامر: لا والله إنا لنرجو من رحمة الله ما هو أوسع من ذلك قال له هرم وكان أفقه الرجلين وأعلمهما بالله: “لكني والله لوددت أني شجرة من هذه الشجر قد أكلتني هذه الراحلة ثم قذفتني بعرًا ولم أكابد الحساب يوم القيامة إما إلى الجنة وإما إلى النار ويحك يا ابن عامر إني أخاف الداهية الكبرى” أي نار جهنم.
هرم وعمر بن الخطاب
عن أبي عمران الجوني عن هرم بن حيان أنه قال: “إياكم والعالم الفاسق”. فبلغ عمر بن الخطاب فسأله عما أراد به، فكتب إليه هرم بن حيان: والله يا أمير المؤمنين ما أردت به إلا الخير، يكون إمام يتكلم بالعلم ويعمل بالفسق فيشبه على الناس فيقتدوا به في فساد حاله.-
وفاته رضي الله عنه
ولما حضر هرم بن حيان العبدي الموت، قيل له: أوص، قال: ما أدري ما أوصي، ولكن بيعوا درعي، فاقضوا عني ديني، فإن لم تف، فبيعوا فرسي، فإن لم يف فبيعوا غلامي، وأوصيكم بخواتيم سورة النحل ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ (126)﴾ ذُكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية قال: “بل نصبرُ يا رب” رواه البيهقي.
ومات هرم بن حيان في غزاة له في يوم صائف. فلما فرغ من دفنه جاءت سحابة فأمطرت قبر هرم بن حيان من يومه ونبت العشب من يومه.
والحمد لله رب العالمين.█