الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. 

أما بعد فإن الله تعالى جعل أفضل الخلائق الأنبياء والرسل عليهم السلام، وخصّهم بصفات دون غيرهم من خلقه، ومنهم سيدنا يحيى عليه السلام، فقد أثنى الله عليه بالثناء العاطر الحسن ووصفه بالبر والتقوى والصلاح. 

ولادته عليه السلام

ولد نبي الله يحيى عليه السلام قبل مولد عيسى بثلاثة أشهر، وقيل: بثلاث سنين، وكان ابن خالته وقد عاصره وعاش معه فترة طويلة ورافق مراحل دعوته عليهما الصلاة والسلام، قال الله عز وجل: ﴿يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا (7) سورة مريم، أي لم يسم أحد يحيى قبله، ووجه الفضيلة في ذلك أن الله تعالى تولّى تسميته ولم يَكِل ذلك إلى أبويه فسماه باسم لم يُسبق إليه.

وقد آتى الله تبارك وتعالى يحيى عليه السلام الحكم والنبوة والعلم وعلَّمه الله عز وجل الكتاب وهو التوراة التي كانوا يتدارسونها فيما بينهم وقد كان سنُّه إذ ذاك صغيرًا، يقول الله تعالى في سورة مريم: ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ أي تعلّم التوراة بجد وحرص واجتهاد ﴿وَءاتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) أي الفهم والعبادة وهو صغير حَدَثٌ.

دعوته عليه الصلاة والسلام

كان سيدنا يحيى عليه السلام يدعو بني إسرائيل إلى عبادة الله وحده بالحكمة والموعظة الحسنة للعمل بشريعة التوراة يقول الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ سورة المائدة/.44

وكان نبي الله يحيى عليه السلام قد أُمِر بخمس كلمات أن يعمل بهن وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فجمع يحيى عليه السلام بني إسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد فقعد مشرفًا عليهم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله عز وجل أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن، أولاهن أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وآمركم بالصلاة، وآمركم بــالــصــيــام، وآمــركــم بـالـصـدقـة، وآمركم بذكر الله كثيرًا، رواه الإمام أحمد وغيره.

وفاة نبي الله يحيى عليه السلام

يروى أن ملكًا من بني إسرائيل كان يكرم يحيى بن زكريا، ويدنيه من مجلسه، ويستشيره في أمره، ولا يقطع أمرًا دونه، وأنه هوى أن يتزوّج ابنة زوجته فسأل يحيى عن ذلك، فنهاه عن نكاحها وقال: إنها لا تحل لك، فبلغ ذلك أمها فحقدت على يحيى حين نهاه أن يتزوّجَ ابنتها، فعمدت الأمّ إلى ابنتها حين جلس الملك على شرابه، فألبستها ثيابًا فاخرة، وطيَّبتها وألبستها من الحُليّ، وأرسلتها إلى الملك، وأمرتها أن تسقيه، وأن تعرض عليه نفسها، فإن أرادها على نفسها أبت عليه حتى يعطيها ما سألته، فإذا أعطاها ذلك سألته أن يأتي برأس يحيى بن زكريا في طست، ففعلت، فجعلت تسقيه وتعرض له نفسها، فلما سكر وأخذ فيه الشراب أرادها على نفسها، فقالت: لا أفعل حتى تعطيني ما أسألك، فقال: ما الذي تسألينني؟ قالت: أسألك أن تبعث إلى يحيى بن زكريا وتأتيني برأسه في هذا الطست، فقال: ويحك سليني غير هذا، فقالت له: ما أريد أن أسألك إلا هذا. فلما ألحَّت عليه أمر جنوده بذلك، فأُتِيَ برأسه، والرأس يتكلم حتى وضع بين يديه وهو يقول: لا يحلّ لك ذلك.

فلما أصبح إذا دمه يغلي، فأمر بتراب فألقى عليه، فرقى الدم فوق التراب يغلي، فألقى عليه التراب أيضًا، فارتفع الدم فوقه، فلم يزل يلقي عليه التراب حتى بلغ سور المدينة وهو يغلي. فبلغ مقتل يحيى عليه السلام رجلًا اسمه صحابين فثار في الناس وحرضهم على قتل قاتل يحيى، وأراد أن يبعث عليهم جيشًا، ويؤمِّر عليهم رجلًا فأتاه بختنصر وكلَّمه وقال: إن الذي كنت أرسلته تلك المرّة ضعيف، وإني قد دخلت المدينة وسمعت كلام أهلها، فابعثني، فبعثه.

هلاك قاتل نبي الله يحيى عليه السلام

سار بختنصر بالجيش حتى إذا بلغوا مدينة الملك الظالم قاتل يحيى عليه السلام تحصنوا منه في مدائنهم وأقاموا مدة من الزمن، فلم يطيقوا ذلك واشتدّ عليهم المقام وجاع أصحابه فأرادوا الرجوع، فخرجت إليهم عجوز من عجائز بني إسرائيل فقالت: أين أمير الجند؟ فأتي بها إليه، فقالت له: إنه بلغني أنك تريد أن ترجع بجندك قبل أن تفتح هذه المدينة، قال: نعم، قد طال مقامي، وجاع أصحابي، فلست أستطيع المقام فوق الذي كان مني، فقالت: أرأيتك إن فتحت لك المدينة أتعطيني ما سألتك، وتقتل من أمرتك بقتله، وتكفّ إذا أمرتك أن تكفّ؟ قال: نعم، قالت: إذا أصبحت فاقسم جندك أربعة أرباع، ثم أقم على كلّ زاوية ربعًا، ثم ارفعوا بأيديكم إلى السماء فنادوا: إنا نستفتحك يا الله بدم يحيى بن زكريا، فإن المدينة سوف تسَّاقط بين أيديكم، ففعلوا، فتساقطت المدينة، ودخلوا من جوانبها، فانطلقت به إلى دم يحيى وهو على تراب كثير، فقالت له: اقتل على هذا الدم حتى يسكن، فقتل عليه حتى سكن سبعين ألفًا وامرأة، فلما سكن الدم قالت له: كفّ يدك قد أهلك الله قاتل يحيى ومحرّضه على القتل.

نبي الله دانيال والسَبُع

ورد في تفسير الطبري أنه لما قدم بختنصر أرض بابل وجد صحابين قد مات، فملك مكانه، وكان أكرم الناس عليه نبي الله دانيال وأصحابه عليا وعزاريا وميشائيل، فحسدهم المجوس على ذلك، فوشوا بهم إلى بختنصر وقالوا: إن دانيال وأصحابه لا يعبدون إلهك، ولا يأكلون من ذبيحتك، فدعاهم فسألهم، فقالوا: أجل إن لنا ربًا نعبده، ولسنا نأكل من ذبيحتكم، فأمر بحفر أخدود ليلقيهم فيه، ولما تم حفر الأخدود ألقاهم فيه وكانوا ستة، وألقى معهم سبعًا ضاريًا ليأكلهم، فقال: انطلقوا فلنأكل ولنشرب، فذهبوا فأكلوا وشربوا، ثم حين رجعوا وجدوهم جلوسًا والسبع مفترش ذراعيه بينهم، ولم يخدش منهم أحدًا، ووجدوا معهم رجلًا لم يكن معهم من قبل، فعدوهم فوجدوهم سبعة، فقالوا: من هذا السابع؟ لقد كانوا ستة!!، فخرج إليهم السابع، وكان ملَكًا من الملائكة، فلطم الملك بختنصر لطمة اقتصاصًا منه على ما كان يصنع بنبي الله وأصحابه، ثم إنه رجع ورد الله عليه مُلكه، فكان دانيال وأصحابه أكرم خلق الله عليه من جديد.

والله تعالى أعلم وأحكم. █