الأستاذ سليم… أستاذ العلوم في إحدى المدارس القريبة… يسهر أحيانًا حتى ما بعد منتصف الليل ليحضّر لطلابه كل عام أفكارًا جديدة… حتى يفهم أولاده -كما يحلو له أن يسميهم- ما في صفحات الدرس الجديد من حقائق أو نظريات…
كان يمرّ بين الطلاب أثناء شرحه للدرس، فيوجّه كلماته لهذا الطالب ثم ينتقل بنظره إلى الآخر… يخاطب الجميع بحب وصدق… كانت تحزنه أحيانًا نظرات تائهة من أحد الطلاب… أو بعض الدموع يراها تسيل من عين أحدهم فيرق قلبه له وتكاد دموعه أن تسيل هو الآخر رفقًا به… أحدهم يتألم من كثرة المشاكل بين أبويه… روى له أحدهم أن والديه لا يكفّان عن الشجار… ينام على صوت شجارهما ويستيقظ على نفس الأصوات… وغيره يكون في الصف بجسده وفكره تائه لا يكاد يفقه شيئًا مما يشرح في الصف… قال له هذا الطالب: … أبي قال لي البارحة إنني سأترك المدرسة لأنه لم يعد قادرًا على دفع القسط المدرسي… مشكلة تتكرر كثيرًا… الأب عنده أكثر من ولد… ولم يعد يستطيع دفع كلفة القسط للمدرسة…
محمد تلميذ ذكي… وهو من أفضل طلاب الأستاذ سليم… فقرر الأستاذ مساعدته… وكلّم الإدارة في شأنه وخصّصوا له منحة ليكمل العام الدراسي على حساب المدرسة…
أما خالد فله وضع آخر… إنه مغرم بزميلته مريم في الصف الآخر… لم يكن ينتبه إلى شرح المعلم… أغلب وقته يصرفه في التفكير بمريم… لا يلتفت إلى ما يقوله الأستاذ في الصف… وكان الأستاذ عالـمًا بوضعه. لم يكن يستعمل معه سياسة التعنيف والصراخ… بل يشعر أنه أمام إنسان يمر ببعض المعاناة ويحتاج إلى من يقف بجانبه… كان يكلّمه في أوقات الفراغ وينصحه… يا بني… أنت بضياعك هذا لن تحصل على ما تتمنى… بل الجد والعمل بهمة وصدق وإخلاص هي أسباب للنجاح وللحصول على ما نتمنى…
الأستاذ سليم لم يكن يهتم فقط بشؤون طلابه… بل كان باقي الأساتذة يستشيرونه في أمور طلابهم… وكان ينصحهم دائمًا أن يعاملوا هؤلاء الطلاب كما يحبون أن يُعامل أولادهم من قبل معلميهم… أن يعاملوهم بالرفق واللين والحلم…. كان يقول لهم: هؤلاء الطلاب عندهم نزعات للخير كما أن عندهم نزعات للشر… حاولوا أن تنقذوا طلابكم من نزعات الشر بتقوية الجانب الطيب عندهم… كان يقول لهم: كل واحد من هؤلاء الطلاب يخفي قصة معينة في قلبه وفكره… ساعدوا طلابكم على تجاوز مشاكلهم لينصرفوا للدراسة والعمل بهمة ونشاط… حتى تحصلوا منهم على ما تريدونه من نتائج ترفع الرؤوس…
أم محمود كبيرة في السن… تعيش في بيتها بمفردها… تسكن في طابق أرضي… أولادها يأتون لرؤيتها يوميًا للنظر في حاجاتها… ويصدمون حين يرون جيران الوالدة يرمون أكياس نفاياتهم في الحديقة المجاورة للمنزل… أوقف أحد أبنائها الجار المزعج وقال له: يا أخي الجار للجار… وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بالاهتمام بأمور جيرانهم ومدّ يد المساعدة لهم… أوصى أن نعاملهم بالرحمة والمحبة… فأين الرحمة من رميكم لنفاياتكم عند هذه العجوز…
المجتمع الذي نعيش فيه ليس على ما يتمنى أهل الخير والمعروف… أنت تجد فيه صورًا كثيرة من الخير والحب والتعاون والرحمة… لكنك تجد أيضًا وللأسف صورًا أكثر من الأنانية والحقد والمكر والخداع… منذ أشهر سمعنا عن أب يقتل ابنه لخلاف على قطعة أرض… أطلق الأب الرصاص على ولده… فر الابن لينجو بحياته… لكن من شدة قسوة الأب… لحق به في الشارع ليكمل إطلاق النار عليه ويرديه قتيلًا…
وفي مثال آخر… أخبرني أحدهم عن رجل عجوز مريض في المستشفى… وكان الأطباء يسعفونه كلما شعر بضيق في التنفس أو ما شابه… فاستنكر أحد أبنائه فعل الطبيب… قال له: لا تسعفه مرة أخرى… لقد حفرنا قبره وطبعنا أوراق النعي وننتظر فقط إضافة التاريخ إلى الورقة… ينتظرون موت والدهم ليحصلوا على التركة…
أين هؤلاء من سيدنا عمر رضي الله عنه… الذي كان خليفة المسلمين… وكان يسهر على راحة أمّته…
من إحدى القصص التي تروى عنه أنه كان في جولة يتفقد أحوال رعيته… فمرَّ على خيمة سمع منها صوت أنين… وعندما استفسر علم أن غريبًا وصل إلى البلد وأن زوجته تئن من ألم الولادة… فذهب الحبيب عمر رضي الله عنه إلى زوجته وسألها أن تذهب معه لتعين المرأة في أمر ولادتها… فحمل عمر رضي الله عنه شيئًا من الطعام وذهب مع زوجته إلى خيمة الغريب… هو قام بطبخ الطعام وزوجته تعين المرأة الغريبة في الولادة… بعد فترة خرجت أم كلثوم -وهي زوجة سيدنا عمر- من الخيمة تنادي: “يا أمير المؤمنين أخبر الرجل أن الله قد أكرمه بولد وأن زوجته بخير”.
عندما سمع الرجل منها “يا أمير المؤمنين” تراجع إلى الخلف مندهشًا، فلم يكن يعلم أن هذا
عمر بن الخطاب. فضحك سيدنا عمر وقال له: اقترب.. اقترب.. نعم أنا عمر بن الخطاب والتي ولّدت زوجتك هي أم كلثوم ابنة علي بن أبي طالب.
فخرّ الرجل باكيًا وهو يقول: آل بيت النبوة يولّدون زوجتي؟ وأمير المؤمنين يطبخ لي ولزوجتي؟
فقال عمر: خذ هذا وسآتيك بالنفقة ما بقيت عندنا…
هذا مثال على الرحمة التي كان رجال الإسلام الكبار يعاملون بها رعيتهم… لم يكونوا من المتكبرين الظالمين. كانوا يشفقون على العباد ويعاملونهم بالمحبة والصدق والإخلاص…
فقد قال الله تعالى: ﴿وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)﴾ سورة فصلت.
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الرفق لا يكون في شىء إلا زانه ولا ينزع من شىء إلا شانه“… وفي حديث آخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله عز وجل ليعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف” رواه الطبراني.
إن في سير الأولين أمثلة كثيرة عن حسن الخلق والشفقة والرحمة… ليتنا نقتدي بهم…█