هو من أنقى أنواع الحب وأرقاها وأسماها، حب لا تشوبه مآرب أو غايات شخصية، وينأى بطبيعته عن الأنانية. عشق لطالما نرى فيه إيثارًا للحبيب، مصلحته وراحته وسعادته ومطعمه وكسوته وموضع نومه على حساب المحب الصدوق. ومن يستشعر كل هذا الحب، وأكثر، غير الأم؟ الأم التي تملكها حبُ ولدها، حتى قبل أن تشعر به في أحشائها أو تمرر يدها على خده الغض الطري أو تشمَّ رائحة طفولته تُعطِّر أرجاء حياتها. 

تلامس الأم والرضيع والرضاعة الطبيعية

كم وكم من القصص تواترت لتحكي عن تأثير لمسة حنان الأم على وليدها. فمن أسباب نجاح الرضاعة الطبيعية هو التلامس والاتصال الجسدي بين الأم والرضيع، حيث يوضع الرضيع بعد ولادته برفق على صدر أمه يلمس جلده جلدها ويسمع صوت قلبها الذي ألِفَ سماعه في الرحم، ويجد طريقه لثدي أمه، يتمرن على الرضاعة إلى أن يتقنها بتوجيه وحلم أمه. أكثر حليب الأم فائدة للرضيع هو أول حليب يخرج من ثديها على شكل صمغ تقريبًا، وهذا الذي يتجرعه الطفل في أول محاولات الرضاعة وقبل أن يبدأ دفق الحليب القوي. يعتبر هذا الصمغ كنزًا قَلَّ نظيره لتعزيز مناعة حديثي الولادة، إذ إنه ينقل إلى الرضيع محصلة المناعة التي اكتسبتها أمه في حياتها كلها بشكل مركز وفعّال. لذلك عزيزتي الأم، أصري على أن يبقى طفلك معك في غرفتك بعد ولادته، وابدئي بضمه إلى صدرك وإشعاره بحنانك أول ما تلتقطي أنفاسك بعد الولادة. فهذا التقارب في هذا الوقت بالذات أحد أهم أسباب نجاح الرضاعة الطبيعية. ولو تحاملت قليلًا وصبرت على الآلام التي تنتج عن محاولة الرضاعة في الأيام القليلة الأولى واضعة نصب عينيك هدف إنجاح الرضاعة الطبيعية لوجدت أن الأمور تبدأ بالتحسن تدريجيًا إلى أن تصبح الرضاعة عادة سهلة لينة ومحببة لك ولرضيعك.

أهمية التلامس للنمو الجسدي والنفسي

حتى وإن كان لديك أسباب طبية تمنعك من إرضاع طفلك أو قررت عدم الرضاعة لأسباب أخرى، لا تفوتي عليك وعلى طفلك منافع التقارب والتلامس الجسدية والنفسية. فقد أثبتت أكثر من دراسة أن لمس الأطفال يؤثر على نموهم الجسدي والعقلي، وأن اللمس هو إحدى وسائل التواصل الدقيقة التي قد يؤدي غيابها إلى تأخر بنمو الأطفال “أو ما يعرف بالتقزم” مع كونهم يلقون عناية ذويهم ويتناولون طعامًا مناسبًا. فهنا تبرز أهمية لمس الأطفال وتدليكهم يوميًا في غرف العناية المركزة لحديثي الولادة ذوي الوزن المنخفض أو الأطفال الخدج مثلًا، لما يساهم هذا الأمر بإذن الله في زيادة وزن هؤلاء الأطفال وتحفيز نموهم وتماثلهم للشفاء بشكل أسرع مقارنة مع أقرانهم الذين لا يتم لمسهم بشكل كاف أو تدليكهم.

في قصة واقعية تم تداولها بكثافة وضعت امرأة توأمًا، وسرعان ما تحول فرحها حرقة قلب حين قال لها الأطباء: إن أحد طفليها لم يبك عند الولادة ولم يستطع التنفس تلقائيًا، وأن محاولات إنعاشه فشلت كلها. فطلبت الأم أن ترى طفلها الذي لا يتنفس، وضمته إلى صدرها وبكت بحرقة وهي تمسح على رأسه وظهره. وما هي إلا لحظات حتى رأى الأب الحاضر في غرفة الولادة أصابع طفله تتحرك، وحين ذكر ذلك للطبيب لم يُعر الأمر أهمية إلا أنه أشفق على حاليهما وعزاهما في مصابهما… عندها بدأ الصغير بالسعال فتلقفه الأطباء يتأكدون من تنفسه ونبضات قلبه التي باتت قوية ومسموعة ومنتظمة، وقالوا: إن حرارة جسد الأم حفزت القلب على النبض.

وفي قصة أخرى حكي عن طفلتين توأمين من الأطفال الخدج وضعتا في عناية الأطفال المركزة لمتابعة حالتيهما، حيث كانت إحداهما تتعافى وتكبر بشكل ممتاز بينما تتدهور صحة الثانية ولا يزيد وزنها. وفي يوم من الأيام وضعت إحدى الممرضات الأختين معًا في سرير واحد لتنظف سرير الأخرى بعد أن كانت المريضة منهما قد لوثت سريرها وهي في حالة بكاء شديد واضطراب وعدم انتظام في دقات القلب وانخفاض في حرارة الجسد. وما إن أصبحت بجانب أختها حتى وضعت الطفلة الأقوى صحة يدها حول عنق وكتف أختها التي ما لبثت أن هدأت من فورها ونامت نومًا عميقًا. ارتأت الممرضة منذ ذاك الحين أن تبقي الطفلتين معًا، الأمر الذي جعل المريضة تتماثل للشفاء كأختها بعد أن شعرت بالتقارب وملامسة أختها.  

أمّا هذا، فليس حُبًّا!

من طرق التعبير عن “الحب” الشائعة في بلادنا هي إغراق الأطفال بالوجبات الخفيفة اللذيذة المقرمشة الحلوة أو المالحة أو الباردة أو الملونة أو الغازية وما إلى هنالك من أصناف “الشبرقة” التي يتسابق أفراد الأسرة المختلفون بالإغداق بها على الطفل لكسب محبته أو لإظهار محبتهم. فينتهي الأمر بالطفل أن يتناول كميات كبيرة من الأطعمة القليلة الفوائد الغذائية والكثيرة بالسعرات الحرارية، فيشعر الطفل بعدها بالشبع ولا يأكل غذاء متوازنًا أو فاكهة أو خضارًا، ولا يحصل على الكميات المطلوبة يوميًا من المغذيات الأساسية.

ومن سوء المقاربة في التغذية والتربية أيضًا ربط الطعام المضر بالصحة بمفهوم التعبير عن الحب أو المكافأة أو تعلق الحرمان منه بالعقاب، فيستشف الطفل من هذا رسالة مغلوطة بأن تناول هذا النوع من الطعام هو ما يمثل- أو ما يقتضيه- النجاح في شىء ما، وأن انقطاعه عن هذا الطعام يعني حرمانًا وعقابًا وانهزامًا.  فيصبح بذلك ارتباط الطفل بالأطعمة المضرة وثيقًا ويصعب تخليصه من التعلّق به. علامات الحب الأصح لأطفالنا هي تعويدهم على ما هو مفيد لأجسادهم الصغيرة ولعقولهم النامية التي نريد لها أن تنمو في جسم سليم أملًا بأن تكون هي الأخرى سليمة. لا تسمحي لنفسك أو لطفلك بأن يقع فريسة هذه الطريقة من الحب، وعوّديه على الأكل المفيد منذ صغره. لا تعرّفيه على المأكولات التي لا تفضلين له استهلاكها، فهو في النهاية سيتعرف على ما تعرفينه عليه، وهو ما سيألفه. كوني واضحة مع الأهل والأقارب في خياراتك الصحية لأطفالك بحيث لا تضطرين لشرح الأمر مرارًا وتكرارًا. علّمي طفلك كيف وماذا يختار، وكيف يرفض بلباقة ما لا ينبغي له تناوله، بل واجعليه يفهم أضرار ومنافع هذا الطعام أو ذاك ليكون خياره ناتجًا عن فهم واقتناع.

أحبّي طفلك، احمليه وقبليه ودلّليه والمسيه ودلّكي جسده. طمئنيه وربتي على ظهره وأشعريه بأنك ملاذه الآمن، وأن حضنك بيته مهما كَبُر. ولكن قول الحب لا يكفي بل نربيهم ونعودهم على عادات سليمة تتجلى بتعليم أطفالنا أمور دينهم واختيارنا بل والتزامنا بإطعامهم بطريقة صحية وإبعادهم عن ملوثات دخان السيجارة والنرجيلة ونحوهما. ففي زمان كثرت فيه المشوشات، تبقين أيتها الأم مع الأب الفاضل مربية النشء الصاعد الذي نتمنّاه جميعًا كآباء أفضل منا، فهل أعددنا أنفسنا لمهمة بهذه الحجم؟█