﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا (1) قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3)، والصلاة والسلام على سيدنا محمد إمام المرسلين وخاتم النبيين وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين. 

أما بعد فيقول الله تعالى في القرءان الكريم: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) سورة المطففين، وعن أبي أمامة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أنا زعيم ببيت في رَبَض الجنة لمن ترك الـمِراء وإن كان مُحقًّا وببيتٍ في وسط الجنة لمن تركَ الكذب وإن كان مازحًا وببيتٍ في أعلى الجنة لمن حسَّن خلقه” رواه البيهقي في الآداب.

لا شك أن العاقل الفطن هو الذي يدرك حقائق الأمور وعواقبها وما تؤول إليه ويعلم أن الدنيا دار ممر لا تغني عن الآخرة وأن الله تبارك وتعالى جعل الآخرة منتهى الأمر ولم يجعله الدنيا، فينبغي للواحد منا أن يتنافس في أمر الآخرة ويسعى ما استطاع ليتزود من أيامه الفانية للدار الباقية ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم فقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يشبعُ مؤمن من خيرٍ حتى يكون منتهاه الجنة” رواه الترمذي، والخير كل الخير في التمسك بهدي رسول الله سيد الأولين والآخرين سيدنا محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه وعلى كل رسول أرسله كيف لا وقد قال ربنا تعالى فيه: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌسورة الأحزاب/21، وجعل طاعته صلى الله عليه وسلم طاعة له عزّ وجل فقال تعالى: ﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَسورة النساء/80.

ولقد دلَّنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل فضيلة ورغبنا في كل خير وجمع في حديثه الذي مرّ آنفًا خصالَ خيرٍ عظيمةً دعا إليها وبين ما أعدّ الله تعالى لأصحابها من الأجر العظيم وهي ترك المراء وترك الكذب وحسن الخلق، ولقد تكفّل صلى الله عليه وسلم ببيت في ربض الجنة أي في أول منازل الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًّا فقوله: “أنا زعيم” أي كافل، والـمِراء وهو بكسر الميم هو الجدال الذي لا يترتب عليه إحقاق حق ولا إبطال باطل فليس فيه مصلحة شرعية وإنما هو كلام لا طائل منه ولا منفعة فيه، وكم وكم من الناس اليوم يخوضون في المراء والجدال الساعات والساعات فيما لا خير فيه في أمور دنيوية رخيصة أو في لهو ولعب ولربما جرَّ هذا المراء إلى ما لا تحمد عقباه فتكون الخصومات والخلافات والفتن والمشاكسات، ولو بحثنا في العنوان الذي تنافسوا أو تناظروا لأجله فاختصموا لوجدناه ربما كرة القدم أو ثمن سلعة أو تسريحة شعر أو سياسات رخيصة مما يترفع عن الخوض في مثله عقلاء الرجال، ونتساءل لماذا ينزل هؤلاء بأنفسهم إلى هذا المستوى الرخيص ويطلقون لألسنتهم العنان للدخول فيما لا يعود بنفع ولا خير ولا مصلحة بدل أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر ويحجزوا ألسنتهم إلا فيما يرضي الله تعالى، فقد رُوي عن سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه قال: من لم يَعُدَّ كلامه من عمله كان ما يفسد أكثر مما يصلح، فليتق الله امرؤ وليرغب بنفسه عن سفاسف الأمور وترّهاتها ولينظر ماذا يقول وعن ماذا يتكلم وليرقَ بنفسه بهمة عالية ليكون من أهل الفضل، وإذا كان موضع سوط في الجنة خيرًا من الدنيا وما فيها فكيف بمن نال بيتًا في أول منازل الجنة، كيف وقد ضمن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتًا في ربض الجنة لمن ترك المراء لله تعالى حتى ولو كان محقًّا فيه لأن المراء لا خير فيه، فلينظر الواحد منا ماذا يقول وفي أي شىء يخوض وبماذا يأمر وعما ينهى ثم ليسعى أن يكون عاملًا بمقتضى ما أرشد إليه هذا الحديث العظيم فيجمع مع ترك المراء ترك الكذب أيضًا، فإن الكذب شىء يترفع عنه كل من كرمت عليه نفسه، وعار بالمرء أن يكون من الكاذبين، فقد روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البِرّ، وإن البِرَّ يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدقُ ويتحرى الصدقَ حتى يُكتب عند الله صديقًا وإيّاكم والكذبَ فإن الكذبَ يهدي إلى الفُجور وإن الفُجور يهدي إلى النار وما يزالُ الرجل يكذبُ ويتحرّى الكذبَ حتى يُكتب عند الله كذّابًا“. وقوله: “يهدي” أي يوصل، فالصدق يوصل إلى الخير، والبِرّ اسم جامع للخيرات والبِرّ يوصل إلى الجنة قال تعالى: ﴿إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13)﴾ سورة الانفطار، وقوله صلى الله عليه وسلم في الرجل: “يصدقُ ويتحرّى الصدق” أي يثبت عليه ويتكرر منه الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، وأما الكذب فيوصل إلى الفجور والفجور موصل إلى النار، والفجور والعياذ بالله اسم جامع للشر وما يزال الكذب ببعض الناس فيكذب الواحد منهم ويتحرى الكذب فيتكرر منه ذلك حتى يكتب عند الله كذابًا أي يُحكم عليه بذلك ويظهر أمره للمخلوقين في الملأ الأعلى أو يلقى في قلوب الناس فيتركه الناس لكذبه ويحذرونه، فإن من عُرف بين الناس بالكذب سقطت هيبته من القلوب وقلَّ مقامه وهوى أمره بين الناس فلا يعبأ به المجتمع ولا ينظر له أهل الرأي ولا يعتد بكذبه كل عاقل، فالكذب منقصة ولو كان على سبيل المزح وما أقبح ما اعتاده كثير من الناس من ترويج الكذب في أول شهر نيسان.

وقد أمر ربنا تبارك وتعالى بالصدق وحث عليه فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ (119) سورة التوبة، فإياك أخي المسلم والكذب فهو حرام في الجد وفي الهزل وليس المزح عذرًا للكذب وليعلم أن الكذب قد يكون صغيرة من الصغائر ككذبة ليس فيها إلحاق أذى ولا ضرر بمن لا يجوز الإضرار به وقد يكون من الكبائر كالكذب الذي يكون فيه إلحاق ضرر بمن لا يجوز الإضرار به وقد يكون كفرًا والعياذ بالله تعالى كمن يُحرّم حلالًا أو يُحل حرامًا معلومًا من الدين بالضرورة مع علمه بأمر الحكم في الشرع على خلاف ما يقول وقد يكذب بعض الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم وينسبون إليه عليه الصلاة والسلام كلامًا على خلاف الشرع فيكفرون بما قالوا ويهلكون أنفسهم هلاكًا بعيدًا وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ومن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعدَه من النار” رواه البخاري.

فلنتق الله جميعًا وليحرص كل منا على ما ينفعه ليرتقي كل منا بحسن الخلق إلى الدرجات العالية فإن حسن الخلق يقود إلى ترك المراء وترك الكذب، وإذا كان صلى الله عليه وسلم قد ضمن بيتًا في رَبَض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًا وبيتًا في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا فقد ضمن أيضًا بيتًا في أعلى الجنة لمن حسّن خلقه كيف لا وقد جاء في صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن خياركم أحاسنكم أخلاقًا” وناهيك بهذا الحديث دلالة على فضل حسن الخلق، كيف وقد روى الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إن العبد ليبلغُ بحُسْن خُلُقه درجةَ الصائم القائم” أي ينال بحسن خلقه أجرًا يشبه أجر الصائم الذي يصوم النهار والقائم الذي يقوم الليل وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: “إنما بعثتُ لأُتمّم مكارم الأخلاق” رواه البيهقي، فجدير بنا أن نكون على خلق حسن فإن حسن الخلق يقود إلى التقوى ويحجز عن القبائح وقد لخّص العلماء حسن الخلق بثلاث خصال هي الصبر على أذى الناس وكف الأذى عن الناس وبذل المعروف مع من يعرف له معروفه ويرد له بالمثل ومع من لا يعرفه له وما أحوجنا لتطبيق هذه الخصال العظيمة ونحن معاشر أمة من مدحه ربه تبارك وتعالى فقال فيه: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) سورة القلم.

من هنا فإننا ننصح بكل خير وننهى عن كل إثم وشر وندعو إلى نشر الفضيلة وصالح الأخلاق فإنما تسمو بذلك الشعوب وتتقدم الأمم وتزكو النفوس وقد رحمنا الله تعالى بأن بعث في الناس أنبياء فبيّنوا وأوضحوا وأرشدوا فطوبى لمن اهتدى بهديهم وويل لمن تولى عن سبيلهم ونهجهم ومن هنا ندعو الساسة والقادة أن يكونوا منسجمين مع مصالح الناس بالصدق في عهودهم ووعودهم ومواقفهم وإلا فإن الأمور آيلة إلى المزيد مِنَ الخراب والانهيار.