كنا قد أوردنا في أحد الأعداد السابقة أن هذا الباب من مجلتنا “منار الهدى” هو فسحة تعبير عن الشعور وإفراغ للأفكار التي تخطر في بالنا وما نحس به في مختلف نواحي حياتنا اليومية، سواء كنا طلاب جامعات أم أساتذة مدارس، أم موظفي شركات عالمية، لأن “كلام في المليان” هو محطة تتوالى فيها مشاكلنا الاجتماعية وحلولها، أفراحنا وأحزاننا، مواقف نعتز بها وأخرى تشعرنا بالخزي من واقعنا المرير. ولذلك فإني اليوم سأتكلم -برأيي الشخصي- بلسان كل رجل حصل أو ربما سيحصل معه ما حصل معي. 

كان ذلك اليوم أحد الأيام التي أتأخر فيها عادة في عملي بسبب بعض الأوراق المستعجلة والتي لا أستطيع الانتهاء من العمل عليها قبل ذلك الوقت. كان المبنى الذي أعمل فيه فارغًا وكانت الشمس قد غربت وبان الشفق الأحمر الذي ظهر جليًا في الجهة الغربية من مكتبي المطل على الساحل الجنوبي لمدينة بيروت. انتهيت من أعمالي وقبل إغلاق المكتب قررت أن أصلي صلاة المغرب كي لا تفوتني لأنني لا أضمن الوصول إلى منزلي قبل وقت صلاة العشاء، وعندما وصلت إلى الركعة الأخيرة سمعت نغمة الرسالة النصية “SMS” على هاتفي.

ظننت في بادئ الأمر أن الرسالة هي إعلان من إحدى الشركات لأنه -وبوجود الواتسب- لم يعد أحد يستعمل الرسائل النصية المدفوعة. انتهيت من صلاة المغرب وقرأت بعض الأوراد، وحملت هاتفي وأغراضي، غير آبه بالرسالة النصية، واتجهت نحو سيارتي وأدرت المحرك بانتظار أن تصبح جاهزة للانطلاق.

حملت هاتفي لأتكلم مع زوجتي وأسألها إن كانت تريد أن أجلب معي حاجيات للمنزل، وهنا الصدمة…

الرسالة النصية لم تكن دعاية أو إعلانًا إنما كانت من زوجتي!! أحسست بالدم يغلي في رأسي وبدأت حرارتي بالارتفاع. “لماذا أرسلت لي رسالة نصية؟”، “لماذا لم تكلمني عبر الواتسب؟”، “لماذا لم تتصل بي مباشرة؟”، “هل حصل معها شىء؟” كل هذه الأسئلة وغيرها الكثير خطرت في بالي في ثوان قليلة، ورهبة الموقف وتقاطع الأفكار في رأسي أخّرني عن فتح الرسالة لأعرف ماذا كانت تريد مني زوجتي. فتحت الرسالة:

هذا كل ما كان في الرسالة.

“عليك أن تنتظر حوالي 270 يومًا حتى تصبح…”

ظننت في بادئ الأمر أنها أرسلتها لي بالخطأ، وانقلب شعور الخوف إلى شعور حيرة واستفهام، “ما الذي قصدته بهذه الرسالة؟” “وما علاقة الأيام المائتين والسبعين…” وهنا توقف تفكيري وفتحت الآلة الحاسبة على هاتفي، قسمت 270 على 30 فكان الحاصل 9. عليّ أن أنتظر 9 أشهر لأصبح…  أبًا.

توسعت عيناي حتى ظننت أنهما ستخرجان من محجريهما، فتحت فمي ولم أستطع أن أغلقه، مئات بل آلاف الأفكار وانفعالات القلب اختلطت ببعضها وكأنها في مهرجان العيد داخل قلبي، “سأصبح أبًا”.

لم أنتبه للوقت أظن أنني بقيت خمس دقائق بنفس النظرة ونفس الصدمة، صدمة لم يقطعها سوى دقات حارس المبنى على شباك سيارتي ظنًّا منه أنني أواجه مشكلة في سيارتي وهو يقول: “يا أستاذ مرت عشر دقائق وأنت واقف هل هناك مشكلة؟” عندها انتبهت وانطلقت بسيارتي إلى خارج المبنى، واتصلت فورًا بزوجتي التي أكّدت لي الخبر السعيد، بل هو أكثر من سعيد، هو.. هو.. هو من أسعد الأخبار التي سمعتها في حياتي.

أغلقتُ الهاتف واتصلتُ فورًا بأمي لأزف لها الخبر، وقلت لها ويكاد صوتي لا يخرج من شدة فرحي وتأثري: “أمي، ابنك سيصبح أبًا، ستصبحين جدة يا أمي” ولأنه كما يقول المثل “ما أغلى من الولد إلا ولد الولد” أحسستُ أن فرحة أمي توازي فرحتي، وبدأت تدعو لي ولزوجتي بالذرية الصالحة، فبدأت دموعي بالانهمال وبدأ صوتي يتقطع، وقالت لي: “أرأيتَ يا ابني، كم الولد عزيز على قلب أهله؟”، عندها كأن شريط حياتي بدأ بالمرور أمام ناظري وتذكرت تلك الأوقات التي كانت أمي تهتم فيها بنا، وكيف كانت تقطع الطعام عن فمها لتطعمنا، عندما كانت تعطينا المال وتقطعه عن نفسها لنشتري به ما لذ وطاب لأنفسنا، حقًا لم أشعر بكل ذلك حتى الوقت الذي علمتُ فيه أنني سأصبح أبًا.

حقًّا الولد عزيز على قلب أهله، لا يعرف هذا الشعور إلا من جرّبه، شعور يصعب جدًا التعبير عنه بالكلمات، هو فقط يُحَسُّ بالقلب. الله يرزقني وإياكم أعزاءنا القراء الذرية الصالحة. █