أشحت بنظري عنها فالسواد كاد أن يطيح بملامح عينيها حتى يتساءل الواحد منا أهي تنظر إليه أو إلى غيره! جَلَسَتْ قرب زوجها والبسمة العريضة تعلو وجهيهما. بعد برهة ضجّت القاعة بالحضور منهم المهنئون ومنهم من يتناول ما جادت به طاولات القاعة، وسُردت الأحاديث، ولمعت أضواء كاميرات الهواتف الجوّالة كلّ يريد أن يلتقط صورة -غالبًا ما تعكس خلاف الواقع هذه الأيام- علّها تجمّد الجمال والأناقة وتحفظهما بعيدًا عن تغيير الزّمن السريع. 

جلست وزوجي إلى طاولة تعجّ بالغرباء. وما هي إلا لحظة حتّى دوّى صوت كأنّه من الحدّة انفجار أوشك أن يوقعنا عن مقعدينا. وإذ بالجلّاس تهرول إلى منتصف الصّالة حيث تمايلت الأجساد مع نغمات ما سمّي بأنشودة! فقفز هذا ولوّحت بيديها تلك. علت الدّهشة وجهينا! فنحن لا تجذبنا عادة أجواء كهذه بل نغيب عن حضور كلّ ما يماثلها. وما قدم بنا إلى تلك المناسبة إلا اعتقادنا وتوقّعنا حضور ما يعاكسها.

وانتقل منسّق الأنغام من ضوضاء إلى أخرى لا تفهم فحوى كلامها عربيّة هي أو أعجمية ولا تميّز أنغامها شرقيّة أو غربيّة بل هي مزيج غير متجانس من حضارة خاطها هادمو الحضارات ثوبًا فلبسه دون نقاش أو تفكير كلّ طالب هوى ومتشتّت أفكار وفاقد هويّة! وتلا الضجيج دخان غطّى الرّؤية فغدا الحضور أشباحًا ملوّنة بألوان كرة الدّيسكو! ونظرت حولي وإذا بأطفال صغار يتنشقون الدّخان ذاك مع ما انضمّ إليه من النرجيلة والسيجارة.

غادرت وزوجي بعد نصف ساعة من القدوم. وما زلت أسأل نفسي إلى الآن: أَفَرَحٌ ذلك؟ أين جمال العروس النّضر بإشراقتها الناعمة؟ أين الحياء؟ أين رصانة الرجال؟ أين حضارتنا العربية الجميلة؟ كلّها غابت وحلّ مكانها تبرّج كثيف ستر معالم وجه العروس والحاضرات فتحسبهنّ دمى بلاستيكيّة بلا شعور حقيقي. وتربّعت حضارة الديسكو على عرش المناسبة داعية حضارة الرّقي التي يشهد لها التاريخ إلى التّنحي بلا اختيار و… فهمكم كافٍ!

ومن فَرَح بقناع مزيّف ننتقل إلى سعادة من الأعماق غنيّة بحقيقتها وإن خيّم عليها هادم الّلذّات… مات العمّ حامد وحيدًا عن الأهل والولد.

عاش في غرفة صغيرة يخرج منها حينًا ليبقى فردًا من أفراد مجتمعه يزور هذا ويحتسي شراب البن مع ذاك ويمشي بين أحياء المحلّة.

مات العم حامد فأقبل هذا واتّصل ذاك وجاءت هذه وتواصلت تلك وبكى الصغار لأنّ حامدًا كان يسأل عن أحوالهم ويتفقّدهم ويرسم لهم بالألوان فهو الرسّام المجهول…

مات العم حامد فتهافت على تغسيله وتكفينه والصلاة عليه الغريب والقريب.

لم يتعرّف الفرح بجميع وجوهه على العم حامد إلا معرفة سطحيّة. فهو بالرّغم من أنّه غصّ بآلام فراق ابنته الوحيدة علت البسمة فمه باستمرار. أدخل البهجة إلى قلوب من حوله وخاصة الصغار مع أنّ الألم اعتصر قلبه.

لم يتعرّف الفرح بجميع وجوهه على العم حامد لكنّ أبناء الحيّ الذي كان يقطنه أرادوا رسم بسمة السّرور في قلوب أهل العمّ الرّسّام فساعدوا في فتح القبر أي حفره وأقاموا مجالس العزاء حيث ساد صوتان: تلاوة القرءان المعظّم وصوت مدرّس الدين. وبعد أسبوع من وفاته أقاموا مأدبة طعام عن روحه في وسط الحيّ كي يتناول الطعام الجميع بمن فيهم المارّة وتضمّن الأمر دروسًا دينيّة لترقيق القلوب.

نعم حزن الكلّ لموت حامد لكنّ الفرح نشر خيوطه لتطال قلوب الجميع. فوجدوا التّآخي والسند ويد العون والحبّ بلا مقابل والبسمة بلا خلفيّة حيث لا قناع تبرّج ولا ضحكة “على الآخر” ولا مصافحة “لغرض شخصي” ولا أجساد متمايلة!

أعزّائي القرّاء لا تُرسم البسمة بفرح المعصية ولا بالبعد عن الحشمة والأدب والعادات الحسنة وإلا كانت بسمة مشؤومة ملطّخة دكّنت بالسّواد قلب صاحبها. فليكن فرحنا كوجوه القمر منيرة لعتمة الليل الحالك يبصر طريقه بنورها ولو خفت التّائه في الظلام. ودعونا من عادات غيرنا فهي لا تعكس من نحن حقيقة من الدّاخل لهشاشتها وسطحيّتها فلا سعادة بالبذخ والتفاخر ولا بهجة بالأنانيّة والقطيعة. فدعونا لا ننتظر موت أحدهم لتُرسم بسمة في حياتنا. انتهى الكلام! █