الـحـمد لله رب العالـمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وحبيب رب العالمين سيدنا محمد وعلى جميع إخوانه من النبيين والمرسلين وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين. 

أما بعد فإن آي القرءان الكريم لا تتناقض بل تتعاضد لقوله تعالى: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا (82)﴾ سورة النساء، والأحاديث الثابتة عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تناقض ما جاء في القرءان. وإن الله تعالى أخبر في القرءان بالآية المحكمة أنه ليس كمثله شىء فيحمل ما جاء في القرءان من الآيات المتشابهات أو الأحاديث المتشابهة على معنى موافق للآية المحكمة فلا تفسر هذه الآيات ولا الأحاديث على ما يوهم ظاهرها مناقضة الآية المحكمة. وكنا تكلمنا في عددنا السابق عن بعض الآيات المتشابهات وبيّنّا معناها وأنها لا تُحمل على الظاهر، ونتناول في مقالنا هذا بعضًا من الأحاديث المتشابهة ونبيّن معناها على ما ذكره العلماء المحقّقون.

ونبدأ بالحديث المعروف بحديث الجارية الذي يتمسك به المشبّهة لإثبات أن الله ساكن في السماء، فقد روى مسلم أن رجلًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن جاريةٍ له، قال: قلتُ يا رسـول الله أفـلا أُعـتـقُـها، قـال: “ائتني بها“، فأتاهُ بها فقال لها: “أين الله“، قالت: في السماء، قال: “من أنا“، قالت: أنت رسولُ الله، قال: “أعتِقْها فإنّها مُؤْمنة“، فهذا الحديث ليس معناه أن الله يسكن السماء كما توهَّم بعض الجهلة بل معناه أن الله عالي القدر جدًا، فما في هذه الرواية من أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: “أين الله” هو سؤالٌ عن تعظيمها لله فإن “أين” تأتي للسؤال عن المكان وتأتي للسؤال عن المكانة أي القدر. ومعنى قول الجارية: “في السماء” أن الله عالي القدر جدًا وهذا يُوافق اللغة، وهذا الحديث قد أوَّله النووي في شرحه على صحيح مسلم على هذا الوجه. وأما البيهقي فقد حكم على حديث الجارية بالضعف كما ذكر ذلك في كتابه الأسماء والصفات.

فحديث الجارية ليس بصحيح لأمرين: الأول: الاضطراب أي اختلاف الروايات مع عدم إمكان الجمع بينها أو ترجيح إحدى الروايات على الأخرى، فإن مسلمًا رواه بهذا اللفظ ورواه ابن حبان بلفظ “مَن ربّكِ”، فقالت: الله، ورواه البيهقي بلفظ “أين الله” فأشارت إلى السّماء، ورواه مالك بلفظ “أَتشهدينَ أن لا إلهَ إلا الله” فقالت: نعم، قال: “أتشهدين أنّ محمدًا رسولُ الله“، قالت: نعم.

والأمرُ الثاني أنَّ ما رواه مسلم من أنَّ الرّسول صلى الله عليه وسلم حكم على الجارية بالإسلام بقولها: “الله في السّماء” مخالف للأصول لأنَّ من أصول الشريعة أنَّ الشخص لا يُحكَم له بقول: “الله في السّماء” بالإسلام لأنَّ هذا القول ليس قول التوحيد بل هو قول اليهود وغيرهم ممن لم يؤمنوا بشريعة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وإنما الأصل المعروف في شريعة الله للحكم على الشخص بكونه مسلمًا ما جاء في الحديث المتواتر الذي رواه البخاري ومسلم والذي فيه “حتى يَشهدوا أَن لا إلهَ إلا الله وأن محمدًا رسولُ الله“، ورواية مالك «أتشهدين» هي الموافقة للأصول لأنها موافقة لمعنى الحديث المتواتر وأما بالنظر إلى الروايات فليست رواية مسلم بقوة رواية مالك «أتشهدين» فتُرَجَّح على رواية مسلم وتكون رواية مسلم شاذة. ويكون ضعف هذه الرواية من هذا الباب لا من باب الاضطراب.

ومن الأحاديث المتشابهة ما رواه الإمام أحمد عن أبـي موسى الأشعري أنه قال: كنا مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فجعلنا لا نصعد شَرَفًا أي مكانًا عاليًا ولا نعلو شَرَفًا ولا نهبط في وادٍ إلا رفعنا أصواتنا بالتكبير، فدنا منا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “أيُّها الناسُ اربَعوا على أنفسِكم فإنَّكم ما تَدْعُونَ أصَمَّ ولا غائبًا إنّما تَدعُون سميعًا بصيرًا، إنَّ الذي تَدْعون أقربُ إلى أحدكم من عُنُق راحلته“.

ويُستفاد من هذا الـحديث فوائد عدة، منـها أن الاجتماع على ذكر الله كان في زمن الصحابة، فقد كانوا في سفر فوصلوا إلى وادي خيبر فصاروا يهلّلون ويكبّرون بصوت مرتفع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم شفقة عليهـم: “اربَعوا على أنفسكم” أي هَوِّنوا على أنفسكم ولا تُجهدوها برفع الصوت كثيرًا، “فإنكم ما تَدْعُون أصمَّ ولا غائبًا” أي الله تعالى يسـمع بسـمعه الأزلي كل الـمسـموعات قوية كانت أم ضعيفة في أي مكان كانت، ومعنى قولـه: “ولا غائبًا” أنـه تعالى لا يخفى عليه شىء، وقولـه: “إن الذي تدعون أقربُ إلى أحدِكم من عُنُقِ رَاحلتِهِ” ليس معناه القرب بالـمسافة لأن ذلك مستـحيل على الله، فالعرش الذي هو سقف الجنة والفرش الذي هو أسفل العالـم بالنسبة إلى ذات الله على حد سواء، ليس أحدهـما أقرب من الآخر إلى الله بالـمسافة، وإنـما معناه أن الله أعلـم بالعبد من نفسه

وأن الله مطلع على أحوال عباده لا يخفى عليه شىء.

ثـم إنـه يلزم على ما ذهبت إليه المشبهة من حمل النصوص الواردة التي ظاهرها أن الله تبارك وتعالى متـحيز في جهة فوق على ظاهرها كون الله تعالى غائبًا لا قريبًا لأن بـين العرش وبـين الـمؤمنـين الذين يذكرون الله في الأرض مسافة تقرب من مسيرة خمسين ألف سنة وفي خلال هذه الـمسافة أجرام صلبة وهي أجرام السـموات وجِرم الكرسي، فلا يصح على موجب معتقدهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنـه قريب بل يكون غائبًا، أما على قول أهل السنة فكونـه قريبًا لا إشكال فيه، فما أشد فساد عقيدة تؤدي إلى تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأمَّا الحديث الذي رواه الترمذي وهو: “الرَّاحمونَ يرحمُهـم الرحمن ارحمُوا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السـماء“، وفي رواية أخرى للحاكم وأحمد لفظ: “يرحمْكم أهلُ السـماء“، فهذه الرواية تفسّر الرواية الأولى لأن خير ما يُفسَّرُ بـه الـحديث الواردُ بالواردِ. والـمراد بأهل السـماء الـملائكة، ذكر ذلك الـحافظ العراقي في أماليه عقيب هذا الـحديث، ونصّ عبارتـه: “واستُدل بقولـه: أهل السـماء على أن الـمراد بقولـه تعالى في الآية: ﴿ءَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء﴾ -سورة الـملك/16- الـملائكةُ” اهـ، ولا يقال للـه “أَهلُ السـماء”. و”مَن” تصلـح للـمفرد وللـجـمع فلا حجة للمشبهة في الآية، ويقال مثل ذلك في الآية التي تليها وهي: ﴿أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا﴾ سورة الـملك/17، فـ”مَن” في هذه الآية أيضًا يُراد بها أهل السـماء، فإن الله يُسلِّط على الكفار الـملائكة إذا أراد أن يـُحِلّ عليهـم عقوبتـه في الدنـيا كما أنـهـم في الآخرة هـم الـمُوَكَّلون بتسليط العقوبة على الكفَّار.

ومعنى قولـه عليه الصلاة والسلام: “ارحمُوا مَن في الأرض” أي بإرشادهـم إلى الـخير بتعليـمهـم أمور الدين الضرورية التي هي سبب لإنقاذهـم من النار، وارحموهم أيضًا بإطعام جائعهـم وكسوة عاريهـم ونـحو ذلك. وأمّا قولـه عليه السلام: “يرحمْكم أهلُ السـماء“، فأهل السـماء هـم الـملائكة وهـم يرحمون من في الأرض أي أن الله يأمرهـم بأن يستغفروا للـمؤمنـين، وهم يُنزلون لـهـم الـمطرَ ويَنفحونـهـم بنفحات خير ويـمدونـهـم بـمدد خير وبركة، ويـحفظونـهـم على حسب ما يأمُرُهـم الله تعالى.

ولو كان الله تعالى ساكن السـماء كما يَزْعمُ البعض لكان الله يُزاحم الـملائكة وهذا مُحالٌ، فقد روى الطبراني عن جابر رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما في السمواتِ السبعِ موضع قدمٍ ولا شبرٍ ولا كفّ إلا وفيه ملكٌ قائمٌ أو مَلَكٌ راكعٌ أو ملكٌ ساجدٌ” فهذا الـحديث فيه دليل على أنـه يستـحيل على الله أن يكون ساكن السـماء وإلا لكان مساويًا للـملائكة مُزاحمًا لـهـم.

وكذلك ورد حديث رواه مسلم وفيه: “والذي نفسي بيدِهِ ما من رجلٍ يدعو امرأتَه إلى فراشِها فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخِطًا عليها حتى يَرضى عنها“، فيـُحمل أيضًا على الـملائكة بدليل الرواية الثانـية الصحيـحة والتي هي أشهَر من هذه وهي: “لعنتها الملائكةُ حتى تُصْبِح” رواها مسلم أيضًا.

وأما النُّزول المذكور في حديث الترمذي “يَنزلُ ربُّنا كلَّ ليلةٍ إلى السماءِ الدنيا حينَ يبقى ثلثُ الليلِ الآخرُ فيقولُ مَنْ يدعُوني فأستَجيبَ له ومَن يَسألُني فأُعطِيَهُ ومن يَستغفرُني فأَغفرَ له” فأحسنُ ما يُقال في ذلك هو نزول الـمَلَك بأمر الله فيُنادي مُبلغًا عن الله تلك الكلمات ويمكث الـمَلَك في السماء الدنيا من الثلث الأخير إلى الفجر. أما من يقول: ينـزل الله بلا كيفٍ فهو حقٌّ، لأنه عندما قال: بلا كيفٍ نفى الحركة والانتقال من عُلوٍ إلى سُفلٍ أي لا على المعنى الذي يوصف به المخلوقات. والله تعالى غنيٌّ عن العالمين أي مُستغنٍ عن كلّ ما سواه أزلًا وأبدًا وتفتقر إليه كلّ الكائنات، فلا يحتاج الله تعالى إلى مكان يقوم به أو يحلّ به أو إلى جهة، لأنه تعالى موجودٌ قبل المكان بلا مكان، وهو الذي خلق المكان فليس بحاجة إليه.

وأيضًا من الأحاديث المتشابهة ما رواه البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن أحدَكم إذا قام في صلاته فإنه يُناجي ربَّه أو إن ربَّه بينَهُ وبينَ القِبْلة فلا يَبزُقنَّ أحدكم قِبَلَ قِبلَته” وهذا الحديث أقوى إسنادًا من حديث الجارية. ومناجاة اللـه معناه الإقبال على اللـه بدعائه وتمجيده، والـمعنى أن الـمصلي تجرّد لـمخاطبة ربـه انقطع عن مخاطبة الناس لـمخاطبة الله، فليس من الأدب مع الله أن يبصق الـمُصلي أمام وجهه، وليس معناه أن اللـه هو بذاتـه تلقاء وجه الـمُصلي. وأما قولـه عليه الصلاة والسلام: “إن ربَّه بينَهُ وبينَ القِبلة” أي رحمة ربـه أمامه بينه وبين قبلته، أي الرحمة الـخاصة التي تنزل على الـمُصَلّين.

وأما ما وَرَدَ في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما: “عليكم بما تُطيقون، فوالله لا يَـمَلُّ الله حتى تَـمَلُّوا” فمعناه كما قال الإمام النووي أي لا يعاملكم معاملة الـمَالِّ فيقطع عنكم ثوابه وجزاءه وبَسْط فضله ورحمته حتى تقطعوا عملكم، وذلك لأن الملل والسآمة بالمعنى المتعارف في حقنا مستحيل في حق الله تعالى فيجب تأويل الحديث.

والله تعالى أعلم وأحكم.█