بيروت… أكاد أسمع صوت التنهيدة الطويلة التي تخرج من صدر كل عاشق لبيروت عندما يسمع باسمها. بيروت… دمعة تحاول النزول من عين كل من عرف بيروت وعرف جمال بيروت، لكنه يمسكها للمحافظة على شموخ بيروت وعز بيروت فلا يُنزِل دمعته. بيروت، كرم الضيافة، بيروت عطر الياسمين الشامي، بيروت زهرة البيلسان تناثرت على وجنتيها قطرات الندى ورحيق الزعفران كطبق من الياقوت المرصع بالماس. قد يكون للشخص انحياز لمدينته وهو شىء طبيعي في الإنسان إذ يترسخ عند الإنسان منذ نعومة أظفاره حس الانتماء لوطنه بحسب العادة، لكن بيروت ليست كذلك. لا يعرف هذه اللذة وهذا الإحساس عند ذكر بيروت إلا من عرف بيروت… قديمًا، وهنا تنهيدة أطول.
نعم هي بيروت القديمة التي نتكلم عنها، بيروت الحشمة والحياء، بيروت العلم والعمل، بيروت العلم والعلماء. تلك هي بيروت الحقيقية، بيروت مدينة العلم الصافي النابذ للتطرف، بيروت الداعية لمكارم الأخلاق، بيروت الداعمة لأعمال الخير، بيروت البناءة لمشاريع الهدى والخيرات. وبعد ذكر كل هذا لن نقول: “لكم بيروتكم ولنا بيروتنا” إنما نقول “لنا بيروتنا وستبقى بيروتنا” التي عرفناها لا تسكت عن المفاسد، عرفناها ولا زالت ناشرة للعلم الصحيح متفضلة بالدرر العلمية التي تمحو ظلام الجهل بنور العلم.
هُم رجال بيروت
عندما نقول بيروت لا نستطيع أن نسلخ عنها ذِكرَ رجال هم فعلًا رجال، رجال بنوا الوجه الحضاري والعلمي لمدينة بيروت، رجال لم يتعبوا من نشر الحق والتحذير من الضلالات، لم يُسكت صوتهم إلا الموت ومع ذلك بقيت كتبهم كأنها تنطق بتعاليمهم الصافية النقية. عندما نقول بيروت نقول بيروت هي الشيخ عبد الباسط الفاخوري البيروتي مفتي لبنان، ذلك الشيخ المتواضع الورع، الذي آثر الآخرة على الدنيا، وألّف من الكتب الكثير، ومن أهمها كتاب “الكفاية لذوي العناية” الذي يشير في مقدمته إلى أهمية طلب العلم الشرعي الواجب مِن ثقة في العلم.
عندما نقول بيروت نقول بيروت هي الشيخ الولي مصطفى نجا البيروتي رحمه الله، وهو تلميذ الشيخ
عبد الباسط الفاخوري. هذا الشيخ الذي لم يكل ولم يتعب من عمل الخير حتى إنه كان له عصا دق في أسفلها مسمارًا حتى يرفع بها الأوراق المكتوب عليها اسم الله وغير ذلك من الألفاظ المعظمة شرعًا والتي قد تكون ملقاة في الشوارع وهذا يدل على تعظيمه لأسماء الله.
عندما نقول بيروت نقول بيروت الشيخ عبد القادر قباني الذي ذاع صيته كرئيس بلدية “بيروت المحروسة” كما كانت تسمى بيروت في عصر السلطنة العثمانية، وقد كان له الباع الطويل في تعليم الناس الدين وتأسيس الجمعيات الإسلامية لتعليم أولاد المسلمين الدين الإسلامي الصحيح. وقد حظي الشيخ عبد القادر القباني بتنويه كبير من السلطان عبد الحميد الثاني أثناء توليه هذا المنصب.
عندما نقول بيروت نقول بيروت هي الشيخ الشهيد نزار الحلبي رحمه الله ذلك الشيخ الذي نما منذ الصغر على حب العلم الديني واجتهد في تعلّمه وتعليمه وعمل مع إخوانه وأحبابه لبناء المؤسسات التربوية والاجتماعية والشبابية والصحية والإعلامية والكشفية والرياضية وغيرها، كما صب اهتمامه حتى يوم مماته على التحذير من أخطار التطرف والغلو في الدين. لم يسكت صوته سوى بعض رصاصات غادرة أصابت جسده الطاهر يوم الخميس في 31 آب 1995.
رجال بيروت هم أمثال هؤلاء العلماء الأجلاء الرجال الطيّبون بسيرتهم وأخلاقهم، هم الذين كانوا يدعون للأخلاق الحميدة والعلم الديني الصافي. وهنا نسأل سؤالًا قد يكون محرجًا للبعض “أين نحن من هؤلاء الرجال”؟!
هذه ليست بيروت
وعندما نقول بيروت نقول بيروت العراقة، وبيروت الحضارة، الحضارة بمعناها الأصلي وليس ما يسمى “حضارة” زورًا وبهتانًا في هذه الأيام، في بيروت شارع السادات الذي اكتسب اسمه من كثرة النساء الصالحات والوليات اللواتي كن يسكن في تلك المحلة، ونقول بيروت الباشورة ومقبرتها القديمة التي حوت في تربتها الكثير من الأولياء والصالحين، نقول بيروت الأوزاعي ونزيلها الولي الصالح الشيخ عبد الرحمن الأوزاعي البعلبكي الأصل، نقول بيروت البسطة وبرج أبي حيدر والمشايخ الأجلاء الذين سكنوا هذه المناطق على مر الزمن، زمن كان لبيروت فيه عز وفخر بهؤلاء الرجال.
هذا ما نقوله عن بيروت الحبيبة في الزمن الجميل. لكن وللأسف، الجميل في ذلك الزمن قارب على الانتهاء كي لا نقول انتهى وانقرض، فالمتأمل في أحوال المجتمع اللبناني عمومًا والبيروتي خصوصًا يرى في كثير من المواضع نوعًا من الانحلال الأخلاقي على مختلف الأصعدة. فالأولاد على سبيل المثال، إلا من رحم ربي، لا يحترمون ولا يوقرون آباءهم وأمهاتهم، بل يعاملونهم في بعض الأحيان كعبيد عندهم، بخلاف ما كان الحال عليه منذ زمن ليس ببعيد، ومن المؤسف أن كثيرًا من الأولاد يتنصل عن المسؤولية دائمًا لا يهمه إلا اللهو وقضاء شهواته من مطعم جيد وملبس حسن وسيارة وغيرها من الرفاهيات، وابتعدوا كثيرًا عن بر الوالدين.
كما أن البعد عن تعلم العلم الديني الواجب أصبح جليًّا في هذا الزمن، فمن النادر أن ترى شابًا أو شابةً يذهب بملء إرادته إلى مجلس علم شرعي أو يرتاد مدرسة دينية. ولهذا عدة أسباب منها تربية الأهل، فنرى غالب الأهل أيضًا قد ابتعدوا عن حث أولادهم على تعلم علم الدين، ومن أسبابها أيضًا الصحبة السيئة التي تؤدي في كثير من الأحيان إلى المهالك وخراب البيوت. وقد انعكس هذا الأمر على المستوى الأخلاقي في مجتمعنا بشكل مضر. أصبحنا نرى سهرات المجون والسكر والمخدرات منتشرة بين البيوت والأحياء، أصبحنا نرى بعض أنواع اللباس التي لا تستر العورة!! وأصبحنا نسمع ونرى بعض القصص وحالات السرقة والقتل والاغتصاب ضمن الأسرة الواحدة للأسف الشديد. أصبحنا نرى جزءًا كبيرًا من الشباب لا يصلي، أصبحنا نرى المفطرين في نهار رمضان، علنًا في وضح النهار يشربون السيجارة أو الأركيلة، أو يرتشفون العصير في المقاهي. أصبحنا نرى المساجد فارغة والمقاهي والنوادي الليلية تعج بالناس. أصبحنا نسمع ألفاظ الشتم واللعن منتشرة لكن صدقوني هذه ليست بيروت.
بيروت محتلة؟
نعم. بيروت محتلة بالفساد الأخلاقي، بيروت محتلة بما صدّره الغرب لنا على مدى سنوات من مفاسد. لكن الفرق بين هذا الاحتلال والمعنى الأصلي لكلمة “احتلال” أن الاحتلال هنا هو من المجتمع المحتل لنفسه، فبانصياعنا واتباعنا لشهوات أنفسنا وبابتعادنا عن الالتزام بتعاليم الشرع الحنيف هو الذي أوصلنا إلى هذا الاحتلال، فالاحتلال هنا ليس بوجود أشخاص غرب يحكموننا غصبًا ويديرون شؤوننا، إنما الاحتلال هنا هو احتلال فكري، فالأفكار المستحدثة التي بدأت تسيطر على تفكيرنا وتنتقل جيلًا بعد جيل باسم التحضر والتمدن وهي أبعد ما تكون عن الحضارة والمدنية، هي الاحتلال الذي نقصده هنا.
لكن الأمل باقٍ. يبقى الأمل بالخيّرين والطيبين والدعاة إلى دين الله وشرعه، وإلى تعاليم نبيه الكريم الذين لا يملون ولا يكلّون ليلَ نهار، ويعملون جهدهم لتقويم بوصلة المجتمع البيروتي واللبناني، راجين أن لا تكون أوقات البرامج في الإذاعات والتلفزيونات مسبوقة بعبارة “بتوقيت بيروت المحتلة”.█
إعداد محمد حلاوي