لا أدري، هل نحن غيرهم؟ أو هل زماننا غير زمانهم؟ هل تربيتنا مختلفة عن تربيتهم؟ في كل مرة نجالسهم يقولون لنا جيلكم مختلف عن جيلنا، لن تفهموا ما نقوله لكم. 

أسئلة لطالما راودتني منذ أن بدأت بالنضوج والخوض في معترك الحياة. عند كل مشكلة أواجهها هناك شخص أكبر مني سنًا يريد أن يملي علي ما أفعله بحجة أنه أكبر سنًّا مني، عند غالب التصرفات التي أتصرفها هناك تصرف “أفضل” كان يمكن أن أتصرفه يأتي على شكل “نصيحة” ممّن هو أكبر مني سنًا.

والأمثلة كثيرة عن تباين وجهات النظر بين الأجيال، بين الأجداد والآباء، وبيننا نحن الشباب وبين المراهقين، وبين أي جيل مع جيل آخر، ولهذا الاختلاف أسباب عديدة لست بوارد ذكرها لأن مقالي اليوم ليس عنها إنما مقالتي اليوم عما قاله الحاج حسن “عندما نطق الحاج حسن”.

هو المشهد ذاته أشاهده منذ أكثر من عشرين سنة في حيّنا. وهو ذاته الحاج حسن تجده دائمًا جالسًا على كرسيه الخشبي في تجاويف عينيه عشرات بل مئات، لا بل آلاف الحكايات، لكنه يبقى صامتًا. في الواقع طوال العشرين سنة الماضية لم أسمع صوت الحاج حسن. في طفولتي كنت أخاف منه لا أدري لماذا لكن أذكر أنني كنت أنتقل إلى الرصيف الثاني كلما أردت المرور في ذلك الشارع. لكن الآن بعد أن كبرت وتعلمت بعض الأشياء من هذه الحياة، أردت أن أعرف أكثر عن الحاج حسن علَّه يجيبني عن بعض تساؤلاتي.

قصدت ذلك الشارع، وتوجهت نحو مصطبة الحاج حسن، وألقيت عليه التحية، لكنه لم يرد ولم يلتفت إلي، جلست على طرف المصطبة وسألته عن حاله لكن الحاج حسن بقي كما هو. عندها قلت له: يا حاج، مرت عشرون سنة وأنا أراك بنفس المكان، على نفس الكرسي تنظر إلى الأفق بنفس النظرة، ما سر هذه النظرة؟

لكن الحاج بقي على حاله، فبدأت بالانزعاج، وهممت بالذهاب قائلًا له: يبدو أن جيلكم لن يتفق أبدًا مع جيلنا، تمامًا كما يقول لي جدي، عندها التفت إلي وتبسم ابتسامة مليئة بالسخرية، وبدأت الكلمات تخرج من تلك الشفاه المتشققة “جيلنا؟ جيلنا يعرف الأدب، جيلنا يقدّر الآباء، جيلنا يقدّر كبار السن، ماذا قدّم جيلكم لنا؟ عشرون سنة لم يسأل عني أحد من أولادي” وهنا بدأت الدموع تجري من عينيه وتنحدر على خديه.

وأكمل الحاج حسن فقال: “عندما كان أبي يدخل إلى البيت، كنت تسمع رنة الإبرة إن وقعت، من كان منا مادًّا رجليه كان يجلس بطريقة مؤدبة، نعم كنا نخاف من أبي ونوقره. كنا نسعى قصارى جهدنا لإرضائه، مع العلم أنه لم يظهر لنا يومًا أنه راضٍ تمام الرضى عنا، لا أدري إن كان يخفي ذلك الشعور أم أنه كان يظهر لنا ذلك لنجتهد أكثر، حتى بعد أن تزوجت، بقيت أخاف منه حتى بعد أن رزقت بأولادي… أذكر مرة رجعت من المدرسة وكنت قد رسبت بمادة من المواد، لن أنسى أبدًا تلك النظرة التي رمقني بها عندما أخبرته والدتي بالأمر، ولن أنسى أبدًا صراخه وتوبيخه لي، يومها أخرجني من المنزل وأجبرني على النوم في الغرفة التي تحت الدرج، لم أنم تلك الليلة، كنت فقط أفكر في كيفية تعويضه عن رسوبي، وكيف سأدرس بقية السنة”.

“هذا جيلنا يا ابن أبي أحمد، أخبرني الآن عن جيلكم، ماذا قدّمت لأبيك؟ ماذا فعلت لإرضائه؟ غالب جيلكم يعق أبويه، غالبكم يرفع صوته على أبيه وكأنه هو من يُربي أباه وليس العكس، تظنون أننا لا نفهمكم، بالعكس نحن نفهمكم جيدًا لكن أنتم من لا تفهمون كيفية الأدب مع الوالد”.

وعاد الحاج حسن إلى وضعيته المعتادة ينظر نحو الأفق بعينين دامعتين.

الآن عرفت الإجابة عن أسئلتي ليس الجيل هو السبب ولا الزمان هو السبب، قلة الأخلاق الحميدة هي السبب، بُعدنا عن تعاليم الشرع هي السبب. كم من “حاج حسن” قد نصادف في هذه الحياة لا أدري، لكن الأوان لم يفت حتى لا يصير أبي وأبوكم مثل “الحاج حسن”..█

  إعداد محمد حلاوي