الحمد لله مكوّن الأكوان ومدبّر الزمان، الـموجود أزلًا وأبدًا بلا مكان، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خير إنسان، من بعثه الله رحمة للعالـمين وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين. 

أما بعد فاعلم يا أخي المسلم أن العلماء يثبتون ما ورد في القرءان والحديث الصحيح كالوجه واليد والعين والرضا والغضب وغيرها مما أضيف إلى الله تعالى على وجه إضافة الصفة إلى الموصوف، فيعتقدون أنها صفات يعلمها الله أي يعلم حقيقتها ولا نحيط نحن بحقيقتها ولا نحملها على أنها جوارح وانفعالات كأيدينا ووجوهنا وعيوننا وغضبنا فإن الجوارح والانفعالات مستحيلة على الله لقوله تعالى في سورة الشورى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾، وقوله تعالى في سورة الإخلاص: ﴿ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)﴾ أي لم يكن له مساوٍ ولا مثيل.

قال العلماء: لو كان لله عين بمعنى الجارحة والجسم لكان له أمثال فضلًا عن مِثْلٍ واحدٍ ولجاز عليه ما يجوز على المحدَثات من الموت والفناء والتغيُّر والتطور ولكان ذلك خروجًا من مقتضى البرهان العقلي على استحالة التغير والتحول من حالٍ إلى حالٍ على الله، لأن الدلائل العقلية على حدوث العالم ظاهرة وأظهرها طروء صفاتٍ لم تكن عليه والتحول من حالٍ إلى حالٍ. ولا يصح إهمال العقل لأن الشرع لا يأتي إلا بـمُجَوَّزات العقل أي إلا بما يجوز في حكم العقل، فلا يأتي الشرع إلا بما يقبله العقل لأنه شاهد الشرع كما يدل على ذلك قول الله تعالى: ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا﴾ سورة الحج/64، وقول الله تعالى في سورة الـملك: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)﴾، فالعقل يقضي بأنّ الجسم والجسمانيّات أي الأحوال العارضة للجسم مُـحْدَثة لا مَحالةَ وأنّها محتاجة لـمُحْدِثٍ أي خالق، فيلزم من ذلك أن يكون الـمُتّصف بها له مُـحْدِثٌ فيكون محتاجًا إلى غيره ولا تصح الألوهية لمن يتغيّر ويتحوّل ويحتاج إلى غيره.  

وقد أوّل كثير من العلماء ما ورد في الكتاب والسنة مما ظاهره يُوهِم لله تعالى الجسمية كاليد والعين والوجه لأجل صرف العامة عن معنى الجسمية فتأوّلوه أي فسروه على وجه يحتمل أن يكون المعنى المراد لله تعالى ولرسوله بتلك النصوص، لا على الجزم والقطع بأنه هو المراد، وهذا يسمى تأويلًا تفصيليًّا، فالوجه في لغة العرب يأتي بمعانٍ عديدة منها القصد كما قال الشاعر:  

أستغفرُ الله ذنبًا لستُ مُحصِيَه

 

ربَّ العبادِ إليه الوَجْهُ والعمَلُ

وورد حديث رواه البزار وغيرُه: “إن المرأة عورة فإذا خَرَجَتْ استشرَفَها الشيطانُ وأقربُ ما تكونُ من وجهِ ربِّـها وهي في قعرِ بيتها” ففسّر العلماء قوله عليه الصلاة والسلام: “وجه ربها” هنا بطاعة الله.

وقال تعالى في سورة الرحمن: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ (27)﴾ ومعناه أن كلَّ من على الأرض يفنى، وفناء البشر معناه مفارقَةُ أرواحِهم لأجسادِهم. ومعنى الوجه هنا الذات أي يبقى الله تعالى.

وقال تعالى: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ سورة البقرة/115، وقد جاء في تفسير هذه الآية عن مجاهد تلميذ ابن عبّاس أنه قال: “قِبلة الله”، ففسّر الوجه بالقبلة أي لصلاة النفل في السفر على الرّاحلة. أي أن الله تعالى رخّص لكم في صلاة النفل في السفر أن تتوجّهوا إلى الجهة التي تذهبون إليها هذا لمن هو راكب على الدابة.  

أما من اعتقد أن الوجه إذا أضيف إلى الله في القرءان أو في الحديث معناه العضو الذي هو مركّب على البدن فهو لم يعرف ربّه لأن هذه هيئة الإنسان والملائكة والجن والبهائم فكيف يكون خالق العالم مثلهم، فالله ليس حجمًا بالمرة.

وكذلك ورد إضافة العين لله تعالى في القرءان الكريم على معنى الصفة، وأوّلها أهل السنة بالحفظ. قال تعالى عن سفينة نوح عليه السلام:  ﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا﴾ سورة القمر/14، أي بحفظنا، وقال تعالى عن سيدنا موسى: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)﴾ سورة طه، أي بحفظي. وقال تعالى لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنِّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)﴾ سورة الطور. أي اصْبِرْ لحُكْم رَبّكَ الذي حكم به عليك، وامض لأمره ونهيه، وبلغ رسالاته ﴿فَإِنِّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ أي بمرأى منا نراك ونرى عملك، ونحن نحفظك فلا يصل إليك من أرادك بسوء من المشركين.

وأما ما ورد في النصوص الشرعية من إضافة اليد إلى الله تعالى فقد أوّلها أهل السنة على عدة معان، فاليدُ تأتي بمعنى القدرةِ والقدرةُ هي القوةُ كما في قوله تعالى: ﴿وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ﴾ سورة الذاريات/47، وتأتي بمعنى العهد كما في قوله تعالى: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ سورة الفتح/10، أي عهد الله فوق عُهودهم، أي ثبت عليهم عهد الله لأن معاهدَتَهم للرسول صلى الله عليه وسلم تحت شجرة الرضوان في الحُديبية على أن لا يَفِرُّوا معاهدةٌ لله تبارك وتعالى، لأن الله تعالى هو الذي أَمَر نبيَّهُ بهذه المبايعة.

وأما قوله تعالى: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء﴾ سورة المائدة/64، فمعناه غنيٌّ واسِعُ الكرم.

وقال تعالى في توبيخ إبليس عندما امتنع من السجود لآدم عليه السلام: ﴿مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ سورة ص/75، أي بعنايتي وحفظي، وليس معناه أن لله يدًا جارحة. قال الإمام أبو حنيفة في “الفقه الأبسط”: “ليست كأيدي خلقه ليست بجارحةٍ وهو خالق الأيدي، ووجهه ليس كوجوه خلقه وهو خالق كل الوجوه”.

وأما الرضا والغضب ونحو ذلك مما ورد إضافته إلى الله تعالى مما جاء به الكتاب أو الحديث الثابت الصحيح الإسناد المتفق على توثيق رواته فمحمول على أنه صفة تليق بالله. قال الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه في “الفقه الأكبر”: “وغضبه ورضاه صفتان من صفاته تعالى بلا كيف” يعني أن رضاه وغضبه ليس من الانفعالات التي تحدث في ذاته تعالى لأنه لو كانت تحدث له صفة لكان ذاته حادثًا.

فرضا الله عبارة عن إرادة إنعامه على عباده كما في قوله تعالى في سورة المائدة: ﴿ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾، وهذا هو معنى الرَّحمةِ أيضًا، وليست رحمتُه تعالى رقَّةَ القلبِ.

وأما الغضب إذا وُصِف الله تعالى به فيكون بمعنى إرادة الانتقام، كما في قوله تعالى في حق الكفار: ﴿وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ﴾ سورة الفتح/6، وإرادة الانتقام أزليَّة، هذا المعروفُ عند الأشاعرة في عباراتهم، وأما إذا وُصِفَ المخلوقُ بالغضب فيكون المراد الانفعال النَّفسانيّ أي التغيّر الذي يحصُل عند غليان الدَّم في القلب بإرادة إيصال الضَّرر إلى المغضوب عليه.

وأيضًا يقال في محبة الله لما يُحب وكراهيته لما يكره إنه ليس انفعالًا حادثًا في ذاته بل جميع ذلك ونحوه مما يُضاف إليه تعالى من الصفات فهو أزلي ليس حادثًا في ذاته، قال الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه: “التغير واختلاف الأحوال يحدث في المخلوقين” اهـ.

إذًا ما أضيف إلى الله تعالى مما يُوهم الجسمية قد يكون من الإضافات التي قامت الأدلة على أنها إضافات صفاتٍ كالعين واليد والوجه والرضا والغضب، وأما ما أضيف إلى الله تعالى مما لم يقم الدليل على أنه صفة له سبحانه فلا يصحُّ إجراؤه مُجراها، فلا يصحُّ أن يُقال مثلًا إنَّ الناقةَ صفةٌ لله تعالى لأن الله تعالى قال: ﴿نَاقَةَ اللَّهِ﴾ سورة الشمس/13، ولا أن يقال إن الكعبة صفة له سبحانه لأننا نُسميها بيتَ الله بل الإضافةُ هنا إضافةُ تشريفٍ ومِلك، ومثل ذلك الجَنْب والإصْبِع والقَدَم فلا يجوز أن يُقال إنّ الجَنْب صفة لله تعالى لقوله عز وجلَّ إخبارًا عن الكفار: ﴿يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ﴾ سورة الزمر/56، ولا أن يُقال إن الإصبِعَ صفة لله لحديث مسلم: “إن قلوبَ بني آدمَ كلَّها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلبٍ واحدٍ يصرفُهُ حيثُ يشاء“. ولا يصح أن يقال: إن القَدمَ صفة لله تعالى للحديث الذي رواه البخاري وغيره: “لا تزالُ جهنّم تقولُ هل من مزيد حتى يضعَ ربُّ العزّةِ فيها قدمَهُ فتقولُ قطٍ قطٍ وعزتك” بل معنى تَحَسُّر الكافر على ما فرَّطَ في جنب الله أي على تقصيرِه في القيام بحقوق الله، ومعنى الحديث المذكور فيه الأصابع أنَّ قلوب العباد في قبضة الله تعالى أي بتصرفه يصرّفها كيف يشاء، ومعنى “حتى يضعَ ربُّ العزّةِ فيها قدمَهُ” إدخالُ الفوج الذين يُقَدَّمونَ إلى النارِ فتمتلئُ بهم كما قال النَّضْر بن شُمَيل والأزهري وغيرهما من أهل اللغة.  

ومن الإلحاد في صفات الله وأسمائه أن يُقالَ: إن الله جالسٌ لا كجلوسنا أو إن الله جسم لا كالأجسام، فإنَّ الجلوس لا يكون إلا من ذِي نصفين أعلى وأسفل ومَقْعَدَة يلاقِي بها الجالسُ ما يَجْلِسُ عليه، فإذا قال القائلُ: إن الله جالسٌ فقد نسبَ إليه صفاتِ النقصِ هذه وأَثْبَتَها له إذ لا تحتمل عبارتُه غير هذا فلا ينفعه قوله لا كجلوسنا بعد ذلك وصار حالُه كحال القائلِ: إنّ الله نائم لا كنومنا أو عاجز لا كعجزنا فإنّ عبارة “لا كنومنا” وعبارة “لا كعجزنا” لا تنفعان شيئًا في نفي الكفرِ عمَّن ينسُبُ النوم والعجز إلى الربّ جلَّ وعزَّ وكذلك عبارةُ لا كجلوسنا لا تفيدُ شيئًا في نفي الضلال عمّن ينسُب الجلوس إلى الله تعالى. ولا تنسَ رحمك الله بتوفيقه أنَّه لا يجوز وصف الله ولا تسميته بما لم يَرِدْ به القرءان أو لم يثبت في السنَّة أو لم تُجْمِع عليه الأمة ولا يخفَى أنه لم يَرِدْ في الشرعِ إطلاق الجلوسِ على الله ولا إطلاق الجسم عليه.     

والله تعالى أعلم وأحكم.█