الحمد لله الذي أنزل قرءانه، وذكر فيه قواعد دينه وأركانه، ثم جعل إلى رسوله بيانه، فأوضح ذلك لأصحابه في حياته، ثم تفرّقوا بعد وفاته يبتغون من الله فضله ورضوانه، ففتحوا الأمصار وعلت كلمة التوحيد في الأقطار، وأقبل كل منهم على تحصيل الزاد وقطن بمحل من أطراف البلاد، ولزم أمره وشأنه يفيد ما عَلِمَهُ لأتباعه، ويوضح ما فهمه لأشياعه، من أهل الضبط والصيانة، فنشأ من أتباعهم جمّ غفير، فشمّروا في العلوم أي تشمير، حتى بلغوا منها أعلى مكانة، واجتهدوا غاية الاجتهاد، في تحري الصواب والمراد، طلبًا لأداء الأمانة، فاختلفوا في طلب الحق، وكان اختلافهم رحمة للخلق، فتبارك الحكيم سبحانه، وصلى الله على عبده ورسوله وحبيبه وخليله محمد الذي عصمه وحماه وصانه وأيده بالنصر والتأييد والإعانة، وعلى آله وأصحابه صلاة ترجح لقائلها ميزانه وتبلغه يوم الفزع الأكبر أمانه. 

أما بعد، فإن معرفة الإجماع واختلاف العلماء من أهم الأشياء، وذلك أمر لازم في حق المجتهد حتى لا يخرق الإجماع في مسألة من المسائل عند اجتهاده، لأن الإجماع قاعدة من قواعد الإسلام يهلك من خالفه.

وقد جنّد الله لدينه طائفة من العلماء الذين وضعوا للناس أصول الفقه وبذلوا جهدًا عظيمًا في الاجتهاد لفهم ما شرع الله لعباده من الأحكام، فقديمًا اختلف الصّحابة في كثيرٍ من المسائل الاجتهادية، ولم يكن هذا الاختلاف سببًا للمنازعة، وكان يصلّي بعضهم خلف بعضٍ من غير نكيرٍ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مهما أوتيتم من كتاب الله فالعمل به، لا عذر لأحد في تركه، فإن لم يكن في كتاب الله، فسنة مني ماضية، فإن لم يكن سنتي فما قال أصحابي، إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء فأيّما أخذتم به اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة” رواه البيهقي. ومن هؤلاء المجتهدين أصحاب المذاهب الأربعة أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل، الذين انتشرت مذاهبهم وكثر أتباعهم في مشارق الأرض ومغاربها. فهؤلاء الأربعة شاء الله أن تشتهر مذاهبهم؛ فوُجِد لهم تلاميذ عُنُوا بنشر مذاهبهم وتدوينها والعناية بها حتى بقيت إلى زماننا وكانت بين أيدي الناس، وقد كان في زمانهم علماء مجتهدون أهل فقه وحديث، لكن ما حصل لهم من التلاميذ من يعتني بأقوالهم وآرائهم كما حصل لهؤلاء الأئمة الأربعة، مثل سفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد وغيرهم كثير من المشهورين بالفقه والحديث، ولكن تميّز هؤلاء الأربعة عن غيرهم لقيام تلاميذهم ومن جاء بعدهم بالعناية بأقوالهم وترتيبها وتنظيمها والتأليف فيها، حتى صارت بين أيدي الناس محفوظة، فاشتهرت تلك المذاهب، وهم أئمة هدى وأهل سنة، ومذاهبهم مذاهب أهل السنة، وهؤلاء الأربعة هم على نهج واحد وعلى طريقة واحدة، فأصولهم متفقة من حيث العقيدة، وبالنسبة للفروع فهم مجتهدون، فعلى طالب العلم أن يستفيد من كلام الفقهاء ويحترمهم ويوقرهم، لكن لا يتعصب لأحدهم ويذم الباقي، وإنما يوقر الجميع، ويعتقد أن كل واحد من هؤلاء المجتهدين لا يعدم الأجر أو الأجرين، فإن اجتهد فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر” رواه ابن حبان، ثم إن الاجتهاد يكون عند عدم وجود النص، وأما إذا وجد النص فلا اجتهاد، لكن حيث لم يوجد النص فالاجتهاد لا بد منه، وهذا شىء معروف عن الصحابة ومن بعدهم. ثم هذا الخلاف الحاصل بين الأئمة الأعلام رحمة لهذه الأمة التي ما جعل الله عليها في الدين من حرج، كما قال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ سورة البقرة/185، وقال: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ سورة الحج/78، ولذا قال الإمام السيوطي رحمه الله في رسالته المسماة: “جزيل المواهب في اختلاف المذاهب”: “اعلم أنّ اختلاف المذاهب في الملة نعمة كبيرة، وفضيلة عظيمة، وله سر لطيف أدركه العالِمون، وعمي عنه الجاهلون”.

والاجتهاد لا يكون إلا لمن عرف طرق الأحكام من الكتاب والسنة وموارد الكلام ومصادره ومجازه وحقيقته وعامّه وخاصّه وناسخه ومنسوخه ومطلقه ومقيده ومفصله ومجمله ودليله، ولا بد أن يكون عالمًا بما مضى قبله من السنن وأقوال السلف وإجماع الناس واختلاف العلماء ولسان العرب، ويكون صحيح العقل ليفرق بين المشتبهات، وتشترط أيضًا العدالة وهي السلامة من الكبائر ومن المداومة على الصغائر بحيث تغلب على حسناته من حيث العدد، ويشترط فوق ذلك شرط وهو ركن عظيم في الاجتهاد وهو فقه النفس أي قوة الفهم والإدراك. وأما المقلد فهو الذي لم يصل إلى تلك الرتبة بل يعمل بما قاله المجتهدون.

فالحذر الحذر من هؤلاء الذين يحثون أتباعهم على الاجتهاد مع كونهم وكون متبوعيهم بعيدين عن هذه الرتبة، فهؤلاء يخرّبون ويدعون أتباعهم إلى التخريب في أمور الدين. فالاجتهاد مشروع لأهله وليس لكل فرد من أفراد المسلمين وإلا لضاع الدين، والفوضى لا تليق بالدين، قال الأفوه الأودي:

لا يصلحُ الناسُ فوضى لا سَراةَ لهم

 

ولا سَرَاةَ إذا جهالهم سادوا

والله تعالى أعلم وأحكم.█