الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد النبي الأمّيّ الأمين، وعلى آله وصحبه الميامين، وكل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
لقد أيّد الله تعالى أنبياءه بالمعجزات الباهرات التي تدل على صدق دعواهم ومن هؤلاء الأنبياء سيدنا عيسى عليه السلام، ومن المعجزات التي أعطاه الله إياها معجزة نزول مائدة من السماء عليها ضروب من الطعام الذي كان فيه بركة للناس وإليكم تفصيل هذه القصة.
كان نبي الله سيدنا عيسى عليه السلام قد أمر الحواريين وهم خيرة من آمنوا به عليه السلام، بصيام ثلاثين يومًا، فلما أتـمّوها كانوا معه في صحراء، وكان سيدنا عيسى إذا خرج تبعه ألوف الناس بعضهم أصحابه، وبعضهم يطلبون منه الدعاء لهم لمرض بهم أو علة، إذ كانوا أصحاب عاهات وإعاقات، والبعض الآخر يتبعونه للاستهزاء والتشويش.
سأل الحواريون سيدنا عيسى عليه السلام إنزال مائدة من السماء عليهم لتطمئن قلوبهم بأن الله تبارك وتعالى قد تقبّل صيامهم، وتكون لهم عيدًا يفطرون عليها يوم فطرهم، وطلبوا أن تكون كافيةً لأولهم وآخرهم ولغنيــهم وفقيرهم، ولكن سيدنا عيسى وعظهم في ذلك وخاف ألا يقوموا بشكر الله كما يجب عليهم، وهم قد رأوا الكثير من المعجزات، فلماذا يطلبون المزيد؟
وكان جوابهم أنهم يريدون الأكل منها للتبرك. ولما ألحّوا عليه في ذلك قام إلى حيث كان يصلي ولبس ثيابًا من شعر وأطرق رأسه وبكى خوفًا من الله تعالى وأخذ يتضرع ويدعو بأن يُجابوا إلى ما طلبوا، فاستجاب الله عز وجل دعاءه، ونزلت المائدة من السماء بين غمامتين، غمامة فوقها وأخرى تحتها، وحولها الملائكة، وصارت تدنو شيئًا فشيئًا، وكلما اقتربت منهم سأل عيسى المسيح ربه تعالى أن يجعلها رحمةً لا نقمةً وأن يجعلها سلامًا وبركةً، فلم تزل تدنو حتى استقرت بين يدي عيسى عليه السلام وهي مغطاة بمنديل، فقام يكشف عنها وهو يقول: “بسم الله خير الرازقين” وإذا عليها من الطعام سبع أسماك كبيرة وسبعة أرغفة وخل وملح ورمان وعسل وثمار وهم يجدون لها رائحةً طيبةً جدًا لم يكونوا يجدون مثلها قبل ذلك.
بلغ الخبر اليهود فجاؤوا وقد علاهم الغم والكمد ينظرون إليها فرأوا عجبًا، ثم أمر سيدنا عيسى عليه السلام الحواريين بالأكل منها، فقالوا له: لا نأكل حتى تأكل، فقال عيسى: إنما يأكل منها من طلبها وسألها، فلما أبَوا أن يبدؤوا بالأكل منها أمر الفقراء والمساكين والمرضى وأصحاب العاهات والمقعدين والعميان أن يأكلوا فأطاعوا وكان عددهم قريبًا من ألف وثلاثمائة، فأكلوا منها وحصلت بركات هذه المعجزة العظيمة إذ شُفي كل من به عاهة أو آفة أو مرض مزمن، وصار الفقراء أغنياء، فندم الناس الذين لم يأكلوا منها لما رأوا من إصلاح حال أولئك الذين أكلوا، ولما تزاحم الناس على المائدة جعل سيدنا عيسى دورًا لكل منهم، وكان يأكل آخرهم كما يأكل أولهم، حتى قيل: إنه كان يأكل منها كل يوم سبعة آلاف شخص.
ولما تم أربعون يومًا أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام: يا عيسى اجعل مائدتي هذه للفقراء دون الأغنياء، ثم أمرهم بأن لا يخونوا فلا يأكل منها الأغنياء وأن لا يدّخروا ولا يرفعوا من طعامها ويخبئوه لغد، فخان من خان وادّخر من ادّخر، فرُفعت المائدة، فشق ذلك على كثير من الناس، وتكلم منافقوهم في ذلك وشكّكوا الناس بعيسى عليه السلام، فقال الله: “يا عيسى إني آخذ بشرطي” أي سأعذب من كفر، فلما قام الذين كفروا من نومهم في اليوم التالي وكانوا ثلاثةً وثلاثين شخصًا، تحولوا إلى خنازير بشعة، وصاروا يأكلون الأوساخ من حفر الأقذار، بعدما كانوا يأكلون الطعام الطيب وينامون على الفراش اللين، فلما رأى الناس ذلك اجتمعوا إلى عيسى عليه السلام يبكون، وجاء هؤلاء الخنازير فطأطؤوا رؤوسهم وصاروا يبكون وتجري دموعهم، فعرفهم سيدنا عيسى وصار يقول لكل منهم: “ألست فلانًا؟” فيومئ برأسه ولا يستطيع الكلام، وبقوا كذلك عدة أيام ثم دعا سيدنا عيسى ربه عز وجل أن يقبض أرواحهم، فأصبحوا لا يُدرى أين ذهبوا، هل الأرض ابتلعتهم، أو غير ذلك؟
والله تعالى أعلم وأحكم. █