الحمد لله على جزيل نعمائه، والصلاة والسلام على سيدنا محمد صفوة أنبيائه وأشرف رسله وعلى آله وصحبه وأوليائه. 

مع بداية كل عام قمري تُومِضُ في ذاكرة المسلمين وميضَ البرق في الليلة الظلماء هجرةُ خاتم النبيين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، ومع هذه الذكرى العظيمة يستحضر المسلم التأريخ الإسلامي الذي بدأ من الهجرة المباركة، والدور البارز الذي كان لهذه الهجرة في نشر الحق والعدل في أقطار الدنيا.

فقد بدأت معالم المدينة الإسلامية بكل صفائها ونقائها تظهر جليّة واضحة في يثرب بعد أن استقر فيها الرسول صلى الله عليه وسلم، وحملت اسم طيبةَ الطيّبةِ والمدينة الـمُنوّرة فكانت نواة للدولة الإسلامية التي ما لبثت أن اتسعت رقعتها بعد فتح مكة المكرمة وانتشار دين الله في ربوع الجزيرة العربية.

هذا التوفيق الرباني الذي حصد المسلمون ثماره، كان جزاء الصبر والجهاد وصدق الدعوة التي قام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإيمان العظيم الذي غمر قلوب أصحابه، وفاض على جوارحهم فبذلوا الغالي والنفيس في سبيل الدعوة إلى الحق والتسامح والخير.

وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يقف ذلك الموقف الإيماني الراسخ الذي لا تحوِّله عنه كنوز الأرض وأموال الدنيا، وهو النبي المعصوم والرسول المجتبى، فيقول لعمه أبي طالب حين أتاه يطلب منه الكفّ عن التعرض لقومه وما يعبدون من دون الله: “يا عم لو وضعتَ الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركتُ هذا الأمر حتى يُظهِرَه الله تعالى أو أهلك في طلبه” رواه البيهقي في دلائل النبوة.

إنه موقف الواثق المطمئن إلى وعد الله نبيه بالنصر المبين المؤزر، وهو سبحانه القائل في القرءان الكريم: ﴿إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)﴾ سورة التوبة.

فبيّن الله تعالى أن هذه الهجرة المباركة التي أمر بها نبيه كانت من أوائل علامات النصر وأمارات الظفر الذي تحقق فيما بعد.

من هنا يتضح لكل ذي عقل سليم أن هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن هروبًا من أذى قومه، ولا خوفًا من عدوان العادين وظلم الظالمين وجبروت المتجبرين، ولم تكن فرارًا من طغيان الطاغين وعسف المتعسفين، وكأننا ونحن نتذكر تلك المناسبة العظيمة نرى أبا بكر وقد أوى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غار ثور، وجاءت العنكبوت فنسجت على بابه، وباضت حمامةٌ ورقدت عند الباب، يقول للنبي الأعظم والرسول الأكرم حين وصل رجال قريش إلى الغار: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه، فيجيبه صلى الله عليه وسلم بيقين الأنبياء: “يا أبا بكر ما ظنّك باثنين اللهُ ثالثُهما” رواه مسلم، ومعنى “الله ثالثهما” أي كانا في عصمة الله وحفظه ورعايته وكلاءته.

ويكفي المتأمل المتدبر لمعاني الهجرة النبوية أن يتذكر كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو في شدة شديدة ومحنة عظيمة، يبشر سراقة بن مالك وقد لحق به ليتنسم أخباره ليردَّه إلى قريش، بأنه سيلبس سواري كسرى عظيم الفرس، ويكتب له بذلك كتابًا، فإذا بالمعجزة المحمدية تتحقق، ويفتح المسلمون بلاد فارس في زمن الفاروق عمر، ليكون هذان السواران من نصيب سراقة، فهل بعد ذلك أكبر من هذا اليقين.

وإذا كانت هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ليست هروبًا من بطش قريش وتهديدات صناديدها، فإنها أيضًا لم تكن في الوقت نفسه إياسًا من إيمان قومه وعشيرته ومن حولهم، وهو المبعوث للعالمين من إنس وجن، بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، وهو المأمور كسائر أنبياء الله بالتبليغ لما أمره الله بتبليغه، فقد شاء الله سبحانه وتعالى ومشيئته نافذةٌ في جميع مراداته، أن تتحول هذه الهجرة المباركة إلى نصر عزيز للإسلام، وفتح مبين ما لبث أن عمَّ أرجاء واسعة من البسيطة.

كل هذا دفع الخليفة الراشد عمر بن الخطاب لكي يتخذ من الهجرة المحمدية تأريخًا للمسلمين، حيث كانت يوم الاثنين لثمان خلون من شهر ربيع الأول، وأول شهر في السنة التي هاجر بها النبي عليه الصلاة والسلام هو المحرّم وكان يوم الخميس بدايته.  

وقد ذكر السيوطي في كتابه “الشماريخ في علم التاريخ” أن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: “أرَّخُوا من المحرّم أول السنة، وهو شهرٌ حرامٌ، وهو أول الشهور في العدة، وهو منصرف الناس عن الحج”.

من هنا فإننا ندعو إلى النظر في التاريخ ودروسه، والتعمق في عبره ونتائجه لاستخلاص المنافع التي تجعلنا نفهم حاضرنا وواقعنا، ونُمَتِّن جبهتنا لإبطال مشاريع الفتنة ونجدّد الدعوة للمسؤولين لتحمل مسؤولياتهم ومعالجة الأزمات المستعصية بحِسّ المسؤولية والحكمة والتعقل، والانطلاق في الدرب الذي يوصلنا إلى ما نصبو إليه من أمن وأمان واستقرار ورقي.

نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل هذا العام عام المحبة والأمان، وأن يوحّد شملنا ويسدد خطانا، وكل عام وأنتم بخير.

والحمد لله رب العالمين.█