الحمد لله الذي أرسل رسوله الأعظم، ونبيه الأفخم الذي دعا الناس إلى الخير والرشاد، وأيّده بالمعجزات الباهرات، وأنطقه بالحكم البالغة، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته الأخيار وسلّم، ما أشرقتْ شمسٌ وتعاقب ليل ونهار.
أما بعد فقد قال الله تعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)﴾ سورة الحجر، قد أمرنا الله سبحانه وتعالى بالثبات على الإيمان حتى الموت، لأن بذلك النجاة من الخلود الأبدي في النار، لأن من مات على عقيدة فاسدة مخالفة لدين الله فهذا مآله نار جهنم خالدًا فيها لا ينقطع في الآخرة عنه العذاب إلى ما لا نهاية، وما هو بخارج من النار كما أخبر سبحانه وتعالى في القرءان الكريم بقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لاَّ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (65)﴾ سورة الأحزاب.
فالثبات على عقيدة أهل السنة والجماعة هو السبيل للنجاة في الآخرة، لأن الإيمان هو الأصل الذي لا تصح الأعمال بدونه. روى ابن ماجه في سننه عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: “كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيانٌ حَزَاوِرَة فتعلّمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرءان ثم تعلّمنا القرءان فازددنا به إيمانًا” وفي هذا الحديث بيان اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بتعليم الصحابة التوحيد وتقديمه على غيره. والحزاورة جمع حزَوّرٍ والحَزَوّرُ في اللغة يطلق على مَنْ بلغ أو كاد أن يبلغ.
ومعنى الإيمان هو أن يعتقد الإنسان اعتقادًا جازمًا بأن الله تعالى موجود لا شك في وجوده موصوف بصفات الكمال، ولا أحد يستحق أن يُعبد أي يُتذلل له نهاية التذلل إلا الله، لأن الله تعالى هو خالق العالم بأسره، هو خلقنا وهو الذي يحفظ علينا وجودنا إلى الوقت الذي شاءه ولا خالق لشىء من الأشياء إلا الله كما قال تعالى: ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ﴾ سورة فاطر/3.
ويجب الإيمان برسول الله وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي أي من قبيلة قريش وهم أشرف قبائل العرب، وهو مرسل إلى كل العالمين من إنس وجن بدليل قوله سبحانه وتعالى: ﴿لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)﴾ سورة الفرقان، فالمعنى أنَّه مرسلٌ إلى كافة الإنس من عرب وعجَم وإلى كافة الجنّ. ومما يدل على ذلك أيضًا ما رواه البخاري في صحيحه أنه صلى الله عليه وسلم قال: “كان النبي يُبعث إلى قومه خاصة وبُعثت إلى الناس كافة” أي كان النبي يُسمَّى له قومه خاصة وسُمّي لي الناس كافة، وليس معناه أن الأنبياء السابقين كانوا لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر إلا من كان من قومهم.
وقد أرسله الله ليدعو إلى توحيد الله وعبادته، وإلى ترك عبادة الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، وليخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان. ولقد أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يؤدوا الواجبات ويجتنبوا المحرمات، وأخبرهم أن من مات على الإيمان يدخل الجنة خالدًا فيها وأن من مات على الكفر يدخل النار خالدًا فيها.
ويتبع الإيمان برسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم اعتقاد أنه ولد بمكة المكرمة في سوق الليل في المكان المعروف الآن بمحلة المولد، وأن أمه هي آمنة بنت وهب من بني زهرة من قريش.
وبُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة أي نزل عليه الوحي بالنبوة وهو مستوطنٌ فيها وكان حينئذ في غار حراء، فإنه عليه الصلاة والسلام كان يأتي غار حراء ليتعبّد فيه بين المدة والمدة. ثم في يوم جاءه سيدنا جبريل وهو في الغار وكان
رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بلغ الأربعين من عمره فقال له جبريل: اقرأ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: “ما أنا بقارئ” فقال جبريل: اقرأ فقال رسول الله: “ما أنا بقارئ” فقال جبريل في الثالثة: اقرأ فقال صلى الله عليه وسلم: “ما أنا بقارئ“، فتلا جبريل عليه السلام قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)﴾ سورة العلق. فرجع الرسول عليه الصلاة والسلام إلى خديجة فقال: “زمّلوني زمّلوني” -أي غطوني- فزمّلوه، ثم أخبرها الخبر، رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
ثم بعد ذلك صار الرسول عليه الصلاة والسلام يدعو الناس إلى عبادة الله وحده وينهى عن عبادة الأصنام، ولما علم مشركو مكة بدعوته صلى الله عليه وسلم صاروا يؤذونه ويـؤذون أصـحـابه أذى شديدًا.
فلما كثُرَ أنصار رسول الله بيثرب أمر الله المسلمين بالهجرة إليها فخرجوا أَرْسالًا أي مجموعات، ثم هاجر النبيّ صلى الله عليه وسلم أي فارق مكة إلى المدينة بأمر الله تعالى مع أبي بكر رضي الله عنه بعد أن أقام في مكة منذ البعثة ثلاث عشرة سنة يدعو إلى التوحيد ونبذ الشرك.
ولم تكن الهجرة النبويّة هروبًا من قتال ولا جبنًا عن مواجهة ولا تخاذلاً عن إحقاق حقٍّ أو إبطال باطل، ولكن كانت هجرة بأمر الله تعالى. فأنبياء الله تعالى يستحيل عليهم الجبن، فالأنبياء هم أشجع خلق الله. وقد أعطى الله نبيّنا قوّة أربعين رجلًا من الأشدّاء. فالجبن والهرب لا يليقان بأنبياء الله تعالى. فلا يقال عن النبيّ ما يشعر بالجبن، أمّا إذا قيل هاجر فرارًا من الكفار أي من أذى الكفّار فلا يشعر بالجبن بل ذلك جائز ما فيه نقص.
وقد استقر النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في المدينة المنورة ولحق به سائر أصحابه، واستقبلهم من آمن من أهل المدينة بالترحاب وقويت الدعوة في المدينة. وآخى عليه الصلاة والسلام بين المهاجرين والأنصار فصاروا إخوانًا متحابين متعاونين. وأذن الله بعد ذلك للمؤمنين بالقتال فقاتل صلى الله عليه وسلم المشركين في غزوات كثيرة وجاهد بمَنْ معه في سبيل الله.
وفي السنة الحادية عشرة للهجرة توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة ودفن فيها في حجرة السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها.
سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء
ومما تجب معرفته أنه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين فلا نبي بعده ولا ناسخ لشريعته، والنبي صلى الله عليه وسلم أفضل خلق الله وأعلاهم رتبةً ومنزلةً عند الله، روى الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر“.
وأما الأدلة على أن سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء فكثيرة جدًا منها ما رواه مسلم وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “وختم بيَ النبيّون” فهذا الحديث يفسر قوله تعالى في سورة الأحزاب/40: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾، فمن زعم أنه يُنبأُ شخصٌ بعد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر، لأن العلماء أجمعوا على أنه لا يجوز أن يُنَبّأ شخص بعد محمد صلى الله عليه وسلم استقلالًا أو تجديدًا.
ويدل على ذلك أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه عندما أراد السفر إلى تبوك: “أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي” رواه مسلم، وقوله عليه الصلاة والسلام: “لن يبقى بعدي من النبوة إلا المُبَشّرات“، فقالوا: وما المُبَشّرات يا رسول الله؟ قال: “الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو تُرى له” رواه مالك في الموطأ، فهذان الحديثان فيهما دليل واضح جلي أن سيدنا محمد ختم الله به النبيين فلا نبي بعده.
ومن عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتقد ذلك وصدقه بما أخبر به عن الله فهو مؤمنٌ برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما المعرفة وحدها من غير اعتقاد فلا تكفي لأن الله أخبر عن اليهود أنهم كانوا يعرفون محمدًا أنه رسول الله، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ﴾ سورة البقرة/146، لكن لم تذعن نفوسهم بذلك فهم ليسوا مؤمنين.
والله تعالى أعلم وأحكم.█