استوقفتني عبارة البارحة عندما فتحت هاتفي الجوال وأردت أن أتسلى بلعبة لتمضية بعض الوقت. فتحت اللعبة وبانتظار الدخول إليها وجدت عبارة مكتوبة أسفل الشاشة تقول: “نصيحة: حفّظ لعبتك! ادخل إلى مركز الألعاب “Game Center” ستكون لعبتك بأمان، حتى لو أضعت جهازك”. صدقًا أظن أنها المرة الأولى التي أقرأ فيها هذه “النصائح” الموجودة أسفل الشاشة والحمد لله أنني قرأتها. أي جيل نُربي، هذا الذي ننصحه أن يحفظ لعبته ليتمكن من الدخول إليها حتى وإن أضاع هاتفه؟ أي جيل هذا الذي نُغذي عنده فكرة أن لعبته أهم من جهازه؟ أي جيل هذا الذي يتربى على سهولة الاستهتار بأغراضه الشخصية؟ 

تخيّلت في تلك اللحظة أن ابني او ابنتي أمامي وأنا أضع يدي على كتفه وأقول له: لا بأس يا بني، اذهب وأضع هاتفك، اكسره، احرقه، دمّره، اضرب بعرض الحائط كل تعبي والمجهود الذي بذلته لأشتري لك هذا الهاتف، لكن إياك ثم إياك أن تخسر تقدمك في “candy crush”، واعلم أنك معاقب لمدة شهر ومحروم من مصروفك الشخصي لمدة شهرين إن رجعت إلى الدرجة الأولى في لعبة “pool 8”.  

ما هذه السخافة!!!

والله إني خائف من المستقبل، كيف سأربي ابني او ابنتي، إن كان جيل هذه الأيام غارقًا إلى أذنيه في بحر الألعاب، همّه الوحيد التقدم والتنافس مع زملائه ورفاقه في اللعبة الفلانية، ليأتي في اليوم التالي إلى المدرسة نافخًا صدره شامخ الرأس، أبواق الانتصار تُنفخ من حوله والناس من حوله يقولون: “جاء الفارس المقدام”. كيف لا وكأنه هو من حرّر فلسطين… “إلكترونيًا”!؟

لا أدري حقيقة إن كان هناك إحصائيات محددة لعدد الساعات التي يمضيها أطفالنا على هواتفهم النقالة أو حتى الوقت الذي نمضيه نحن لكن بالتأكيد الجواب: وقت كثير!! ولو احتسبنا النسبة المئوية لهذا الوقت من مجمل الوقت الذي نمضيه ونحن مستيقظون لربما كانت ٥٠٪ على أقل تقدير، فلنتأمل إذًا ماذا نستطيع أن نعمل في هذا الوقت بدون هواتفنا: زيارة أقارب، جلوس مع الأهل، قراءة كتاب -ولا أريد كثرة كلام حول إمكانية قراءة كتاب عبر الهواتف لأنها تفقد اللذة الحقيقية لملمس الورق عند القراءة-، نزهة في الطرقات، تمارين رياضية، وغيرها الكثير.

صنّع غراهام بيل الهاتف ولم يكن يدري ما النتائج، لربما كان قصده بريئًا لكن النتيجة لم تكن بريئة في جميع الأحيان. أصبحنا رهائن ما صنعناه بأيدينا، نبحث كالمجانين عن مآخذ كهرباء لشحن هواتفنا في أي مكان نذهب إليه. نختار الجلوس في أضيق الأمكنة حتى ولو كان هذا على حساب راحتنا الجسدية فقط لانتقاء بقعة مناسبة أمام الشاحن ولالتقاط أعلى إشارة إنترنت. هو الإدمان بذاته، لو نظرنا إلى الأشخاص الجالسين على الأرض الذين تركوا الأثاث الجديد واختاروا الجلوس على الأرض إرضاءً لشهواتهم “الهاتفية” وقارناهم مع أولئك الذين يجلسون في الزوايا المظلمة يتعاطون المخدر لوجدنا نوعًا من الشبه “شكليًا”. أكاد أقول إننا نمشي هائمين على وجوهنا في الشوارع نرتطم بالحائط، لا يهمنا، ندهس أحدهم، لا يهمنا، تُبحُّ حناجر أمهاتنا وهن يناديننا، لا نكترث، كل ما يهمّنا الرد على رسائل أصدقائنا على مجموعة في الواتسب، كأننا إذا لم نرد ستتدمّر حياتنا الاجتماعية وكأنّ ذلك قد يؤدي إلى انهيار سوق العملات وميل ميزان القوى لجانب أعداء الوطن!!

ربما في السنين القادمة سنشهد ظهور حالات مرضية جديدة حالات فوبيا لم نعرفها قديمًا لربما ستظهر النوإنترتفوبيا “Nointernetphobia” تتمثل في الخوف من انقطاع الإنترنت، ونرى حالات إغماء، وغثيان شديد في حال انقطعت إشارة الإنترنت في هواتفنا المحمولة. لربما -وهذا أخطر- سنشهد حالات إجرامية بسبب الهواتف المحمولة، أستطيع أن أتخيل عناوين الصحف بعد سنوات قليلة “قتل والدته لأنها علّقت على صفحته في فايسبوك وأحرجته”، “قتله في الواقع الافتراضي فانتقم منه على أرض الواقع: جريمة مدوية تهز المدينة”، “شاهد فيديو اغتصاب فقرر تمثيله”. صدّقوني هذه ليست مبالغة هذه نتائج أكاد أراها تلوح في الأفق.

علّمنا أهلُنا أن النصيحة كانت بجمل، صدقوني لا أريد جمَلًا ولا ناقةً ولا أي نوع من أنواع الحيوانات الأليفة، أريد فقط أن تصل كلماتي إلى من صَمّت آذانَهم دقاتُ الإشعارات “Notifications” على هواتفهم وأعمت أعينهم الأنوار البراقة المنبعثة من شاشات هواتفهم. صدّقوني آخر ما قد تتخيّلون ظهوره من لعبة على هواتفكم هو النصيحة… وإن كتبوا “Tip” “نصيحة” فإن المكتوب من بعدها بعيدٌ جدًا عن أن يكون من النصائح.█