يعتبر التطوّر التكنولوجي من أهم الأسباب التي أثّرت على عمل الإنسان على مرّ التاريخ. ففي مجاليّ الزراعة والصناعة مثلا جيء بالآلات لتقوم بأعمال كان يقوم بها الإنسان ليتقلّص بذلك عدد العاملين ويتهدّد آخرون بالبطالة. شيئًا فشيئًا دخلت التكنولوجيا في منافسة مع العاملين وأقصت عددًا منهم وانتشرت في مجالات مختلفة لتصل في السنوات العشر الأخيرة إلى مجال التعليم من عدّة نواحٍ. فأين كسبت المنافسة؟ وهل تكسب منافستها للمعلم في السيطرة على الطلاب؟ 

مهن تهدّدها التكنولوجيا

كما سبق وذكرنا، يعتبر المجال الزراعي من أهمّ المجالات التي حلّ فيها التشغيل الآلي محلّ البشر. ففي الولايات المتحدة الأميركية مثلًا لا يكاد يوجد إنسان يعمل في الحقول اليوم. حتى في قيادة الآلات المستخدمة لحرث التربة وحصاد المحاصيل، والتي كان من المتوقّع أن تكون الاستثناء الوحيد التي يبقى فيها الإنسان، إلا أنّ ظهور الجرّارات الحديثة غيّر هذا الواقع. فهذه الجرارات يمكن تحريكها عن بُعد عبر الحقول عن طريق الكمبيوتر أو من خلال برمجة التحرّكات مسبقًا.

كذلك في كثير من المهن حلّ الروبوت محلّ الإنسان أو تجري الدراسات على قدم وساق لأجل ذلك. ففي مركز تريانغل بارك للبحوث في كارولينا الشمالية تعمل شركة بجدّ على تطوير آلات لفرز وتقسيم عينات الدم. أي أنّ الآلة بدأت تدخل العمل المخبري في وظيفة بسيطة يعتمد عليها الآلاف من العمال لكسب قوتهم. لكن يبدو الآن أن الشركات تبحث عمّا يكون أقلّ كلفة وبنفس الكفاءة.

من جهة أخرى، قامت شركة استشارات بدراسة 800 وظيفة وأصدرت توقعاتها حول المهن ومجالات العمل التي يُتوقّع أن تحل فيها الروبوتات محل الإنسان.

فقد قامت الشركة بدراسة 2000 مهمة تقريبًا يقوم بها العمال خلال عملهم في مجالات مختلفة، ولاحظوا أن أغلبية العمال يقضون 20% من وقت العمل على إنجاز مهام يومية متكررة والتي يمكن القيام بها بشكل آلي، بمساعدة الروبوتات القابلة للبرمجة.

فبناء على نتائج الدراسة ستكون الروبوتات فعالة إذا ما حلت محل الإنسان في مهن ومجالات عدة كالتجارة والمطاعم. فهناك 73% من المهمات في المقاهي والمطاعم، على سبيل المثال، يقوم بها الإنسان، يمكن أن ينجزها الروبوت باستخدام التكنولوجيات الحالية.

ولكن يبقى أصحاب المهن الأكثر تهديدًا من طرف الروبوتات هم أصحاب مهن النحت والتلحيم لأن 90% من عمل اللحّامين والنحاتين يمكن للروبوت أن يقوم بها بسهولة وبفعالية.

ولكن تبقى مجالات أخرى كالطبّ والتعليم يصعب تشغيل الروبوتات للقيام بها، لأن هذه المجالات تتطلب اتصالًا مباشرًا مع الناس وتعتمد بشكلٍ كبيرٍ على العقل البشري. فأين تكمن المنافسة إذًا بين المعلّم والتكنولوجيا؟

التكنولوجيا والتعليم

بدأت التكنولوجيا منذ عشرات السنين بالتسلّل شيئًا فشيئًا إلى مجال التعليم: فمن تجهيز المختبرات إلى المختبرات الوهمية التفاعلية مرورًا بآلات العرض التكنولوجي كجهاز عرض الصور الشفّافة وآلة العرض على اللوح لشاشة الحاسوب وصولًا للوح التفاعلي “interactive board” فيسأل المراقب أين دور المعلّم في خضم هذا التطوّر السريع؟

تختلف طريقة التعاطي مع هذه المتغيّرات من معلّم لآخر فالبعض يرفض التعامل مع أي وجه من أوجه التكنولوجيا بداعي الخوف من هذه الآلات وعدم القدرة على استعمالها والتأقلم معها، فيما يقوم البعض الآخر بتعلّم كل ما هو جديد وإدخاله في تحضيره اليومي وشرحه للدرس. ولكن إن كنت من هذه الفئة أو تلك، فتلاميذك عزيزي المعلّم صارت التكنولوجيا في كل جانب من جوانب حياتهم وباستطاعتهم إيجاد كل المعلومات التي تقوم بشرحها لهم، وبطريقة جذّابة جدًا أحيانًا عن طريق التكنولوجيا المتوفّرة بين أيديهم. لذا فالحلّ هو مخاطبتهم بلغتهم. ماذا يعني ذلك؟ هذا يعني تحضير الدرس بطريقة تفاعلية اعتمادًا على التكنولوجيا ولذلك سبل كثيرة أبسطها:

– طبع الدرس وعرضه.

– إغناء الدرس بصور توضيحيّة جاهزة تجذب الانتباه وتوفّر وقت تنفيذك لها باستخدام اللوح والطبشورة.

– الاستعانة ببرامج العرض لعرض الدرس بطريقة متحرّكة وجاذبة للانتباه أكثر من مجرّد السرد.

ولكن التكنولوجيا في التعليم تدخل في مجالات أوسع:

– البرامج والتطبيقات التفاعليّة التي يمكن تنزيلها على اللوح التفاعلي مثل: برامج التجارب المحاكية للواقع والمختبرات الافتراضية، والتي تُمكّن الطالب من إجراء تجارب لا يستطيع إجراءها في المختبر الحقيقي إمّا لخطورتها أو لغلاء المواد الأولية التي يحتاجها. كذلك تمكّنه من تكرار التجربة الواحدة لمراقبة أكثر من جانب، الأمر الذي يتعذّر غالبًا في المختبرات المدرسية.

– الفيديوهات التعليميّة التي تبسّط مفهومًا معيّنًا.

– الألعاب التربويّة التي قد يطلب المعلّم من أحد الطلاب البارعين بالبرمجة من إعدادها.

ففي خضم هذه الهجمة يكون للمعلم دورٌ أساسيٌ ألا وهو حسن اختيار كل هذه المراجع وحسن إدخالها في وقتها وحسن إدارة عمل الطلاب للاستفادة القصوى منها. كذلك من أدوار الأستاذ تقويم عمل الطالب وتعليمه الاستراتيجيّات لتقويم الذات وتقويم كل هذه الوسائل… فهذه الآلات وإن تعدّدت ليست سوى وسيلة للتعلّم أمّا الأساس يبقى في إشراك الطالب وتحفيزه على استثمار قدراته الذهنية في عمليّة التعليم.

بناءً على كل ما تقدّم يمكننا أن نستنتج أنّ التكنولوجيا والروبوتات يمكنها أن تحلّ محلّ الإنسان في المهن التي تعتمد على القيام بأعمال متكررة وروتينية، ولكن الحلول محل البشر بشكل كامل يبقى أمرًا بعيدًا لأهمّية عنصر العقل والتفكير والتواصل في كثيرٍ من المهن وخاصّة مهنة التعليم. فللإجابة عن السؤال: “هل تحلّ التكنولوجيا محلّ المعلّم”؟

نقول: لن تحلّ التكنولوجيا محلّ المعلم ولكن المعلم الذي لا يستخدم التكنولوجيا سيحلّ محلّه آخر يستخدم التكنولوجيا. لذا فالإجابة عن الإشكالية التي بدأنا بها المقال “هل تكسب التكنولوجيا المنافسة مع الأستاذ في السيطرة على الطلّاب”؟ هي أنه ينبغي للأستاذ والمعلّم أن يكسب المنافسة عبر التكنولوجيا فلنخاطب تلاميذنا بلغتهم ولنستهدف عقلهم بهذه التكنولوجيا قبل أن تستنزف طاقاتهم بما لا خير فيه.█