الحمد لله على جزيل نعمائه، والصلاة والسلام على سيدنا محمد صفوة أنبيائه وأشرف رسله وعلى آله وصحبه وأوليائه.
أما بعد فإن المطّلع إلى حال الأمة اليوم بعين المخلِص المشفِق، يتأكّد له أن لا عِزَّ لها إلا بما عَزَّ به أوَّلُها، ولا فلاح لأبنائها إلا بالعودة إلى الجذور الضاربة في عمق التاريخ، الذي بدأ مع إشراقة القرون الثلاثة الأولى ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم وهو القائل: “خيْرُ القرون قَرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم” رواه البزار.
وبالوقوف على مواطن الداء وأسباب الضعف والوهن الذي أصابها، والذي جعل عدوّها يستفحل في غَيّه ويتمادى في طغيانه بعد أن هان عليه أمرها، ندرك أن ذلك عائد إلى التخلّي عن أسباب عزّة الأوائل. وليجدنَّ المنصفُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه الله بشيرًا ونذيرًا كان الناس فوضى لا سراة لهم، قد فرَّقتهم الأهواءُ والفتن، وشرذمتهم العقائد الفاسدة، إذ هم بعيدون عن الإيمان، فقام بما آتاه الله من الحكمة والموعظة الحسنة يدعوهم إلى الإيمان والدين الحق الذي ارتضاه الله لعباده، وجعله شرطًا لقبول الأعمال الصالحة، ويعلّمهم العقيدة الصحيحة المبنية على توحيد الله تعالى وعدم الإشراك به شيئًا، ونبذِ العقائد المضلِّلة الفاسدة. وخلال ثلاث عشرة سنة لم يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم جهدًا إلا بذله في جمع الكلمة على الإيمان وتوحيد الرب، وجرى بذلك مجرى الأنبياء من قبله، من آدم أولِ الأنبياء عليه الصلاة والسلام إلى عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، فمَنَّ الله عليه بدخول الناس أفواجًا في الإسلام، وأيّده بأصحابه الكرام الذين اهتدوا بهدي نبيّهم، واقتدوا به واقتفوا آثاره، واستمروا على ذلك بعد وفاته، فتوحّدوا بوحدة العقيدة يناصرون الدين ويبذلون في سبيل إعلاء راية التوحيد الغالي والنفيس، لا يثنيهم عن مقصدهم مشوّش ولا مغرضٌ، ولا يخافون في الله لومة لائم، فنصرهم الله وأعزَّهم، وتوسعت على أيديهم رقعة الخير، وعمَّ النور بقاعًا كثيرة، وازداد عدد المؤمنين، فامتدَّ الإسلام شرقًا وغربًا، حتى وصل أسوار الصين بالكلمة الطيبة والبرهان المؤيد والتوفيق الرباني، فنعموا بالحب والإخاء في ظل وحدة العقيدة، والالتفاف حول نهج النبوة، والابتعاد عن الأهواء المردية والعقائد الردية، فوقاهم ربهم مصارع السوء، وجنّبهم أسباب الفرقة والشرذمة وإشعال فتيل الخصومة وزرع بذور الشقاق.
ولما برزت في أواخر زمن الصحابة رضوان الله عليهم أهواء ونحلٌ رديئة تخالف المنهج السليم، كعقيدة القدرية والجبرية والمرجئة، قام من كان بقي من الصحابة بالردّ عليهم والإنكار، ونصرة الدين، بإزالة أسباب الهوان والذل، ففي الأمر بالمعروف وإنكار المنكر حياة الدين وحفظه.
هكذا حافظ الصدر الأول على التماسك والوحدة حول العقيدة الحقة، رغم بروزِ أدعياء ضلال، وذلك بنصرة الدين، والرد على المخالفين، ووأد الفتنة في المهد.
وتوالت السنون والعلماء الأعلام يحافظون على أسباب الوحدة والنصرة والعزة، يذودون عن هذا الدين، فها هو الإمام أبو حنيفة يسافر عشرين سنة ونيفًا إلى مجالس المبتدعة يفضهم بالبراهين نصرةً للدين، وكذلك فعل الشافعي وسائر الأعلام.
ولما ضعف الالتزام بهدي القرءان وتوانى الناس عن العمل بالتنزيل إلا من رحم الله، وتركوا العمل بقوله تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ سورة آل عمران/110، توسّع أصحابُ العقائد الرديئة وتعدّدوا فبرزت الأفكار الهدّامة والعقائد الفاسدة، والأهواء، وظهر أمر المعتزلة والجبرية والمشبهة والمجسمة والمرجئة، وأظهروا أسباب الخلاف، وبذروا بذور التفرقة، وشتّتوا جهد الأمة، وتوسع أمرهم وازداد إفسادهم، وهم فيما هم فيه بين ازدياد ونقصان بحسب الأزمان ورجالها وأعلامِ العلماء فيها والمجاهدين المناصرين للدين، المحاربين للفساد وأهله، حتى وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم مما ذكرناه في مقدمة الكلام من حالٍ الكلُّ يعلمه، ولا يخفى أمره على ذي بصيرة.
فما أحوجنا اليوم إلى التمسك بسيرة الأوائل، والالتفاف حول نهج القرءان، والعملِ على نشر المفاهيم السليمة، وتقويضِ أسباب الذل والهوان بذور التفرقة والخلاف، وبالجِد والاجتهاد في بيان الحق ونشر الهدى والتمسك بالعمل بالمهمة العظيمة التي فيها نصر الدين. وبذلك يكون عزُّنا ونصرنا، فنستعيد أمجاد الماضي لنبني أمجاد المستقبل قال الله تعالى: ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)﴾ سورة محمد.
وكفانا دعوات مستجدة متسترة بعناوين الإصلاح والتغيير والتجديد. فالإصلاح لا يكون برد ما تمسّك به الأوائلُ، بل الذي نحتاجه اليوم هو الإصلاح بالعودة إلى الجذور والتمسك بالأصول الراسخة المتصلة سندًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.█