الـحـمد لله رب العالـمين والصلاة والسلام على سيّد المرسلين سيدنا محمد وعلى جميع إخوانه من النبيّين والمرسلين وعلى آله وصحبه الطيّبين الطاهرين. 

أما بعد فإنه يـجب الإيـمان والتصديق بأنّ سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم صادقٌ في كل ما أخبر به عن الله تعالى ولا يخطئ في ذلك سواء كان من أخبار مَن سبقنا من الأمم والأنبياء وبدء الخلق أو من التحليل أو التحريم لبعض أفعال وأقوال العباد، أو مما أخبر به مما يحدث في المستقبل في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة، وذلك لقوله تعالى: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (4)سورة النجـم،  فمن اعتقد أنه يخطئ في ذلك كفر، أمّا ما يخبر به من أمور الدنيا بغير وحي فيجوز عليه الخطأ فيه.

ومما أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجب التصديق به جَزمًا عود الروح إلى الجسد في القبر، وعذاب القبر ونعيمه وسؤال الملكين منكر ونكير.

فأما عود الروح إلى الجسد في القبر فهو ثابت في الأخبار الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ما من عبدٍ يمُرُّ بقبر رجُلٍ كان يعرِفُهُ في الدنيا فيُسلّم عليه إلا عَرَفَهُ وردَّ عليه السلام” رواه ابن عساكر وعبد الحق الإشبيلي وصححه. ويستلزم ذلك رجوع الروح إلى البدن كله -وذلك ظاهر الحديث- أو إلى بعضه. وروى ابن حبان في صحيحه عن عبد الله ابن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر فتَّاني القبر أي الملَكين اللذين يمتحنان الناس في القبر، فقال عمر ابن الخطاب: أتُرَدُّ علينا عقولنا يا رسول الله؟ فقال: “نعم كهيئَتِكم اليوم قال: فبفيه الحجر، أي فسكت سيدنا عمر رضي الله عنه وانقطع عن الكلام لأنه سمع خلاف ما كان يظنه.

ثم الناس في القبر قسمان: قسم مُنعّمون في قبورهم، قبورهم مُنَوّرة مُوَسّعة، وقسم مُعذَّبون في قبورهم. ثم هؤلاء المُعذبون قسمان، الكفار يستمر عليهم العذاب في القبر حتى إذا بلي الجسد تعذّبت أرواحهم. قال الله تعالى: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا ءالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)سورة غافر، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًاسورة طه/124، فهاتان الآيتان واردتان في عذاب القبر للكفار.

والقسم الثاني هم المؤمنون العصاة من أهل الكبائر الذين ماتوا قبل التوبة ولم يسامحهم الله تعالى، فهؤلاء بعضهم يُعذّب مدة في القبر، ثم لا يستمر عليهم العذاب إلى يوم القيامة، بل ينقطع. روى البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال: “إنهما لَيُعَذَّبَانِ وما يُعَذَّبَانِ من كبير” أي إثم كبير، ثم قال: “بلى أمّا أحدُهما فكان يسعى بالنميمة وأما أحدُهما فكان لا يَستترُ من بوله” قال: ثم أخذ عودًا رطبًا فكسره باثنتين ثم غرز كل واحد منهما على قبر ثم قال: “لعلَّه يُخَفَّفُ عنهما ما لم يَيْبَسَا“.

ثم إن العبد إذا وُضِعَ في قبره وتولّى عنه أصحابه إنه ليسمعُ قرع نعالهم إذا انصرفوا أتاه ملكان أسودان أزرقان أي لونهما أسودُ ممزوج بزُرقة وهذا أخوف ما يكون من الألوان، فالكافر يفزع منـهـما، أمّا الـمؤمن التقيّ فلا يخاف منـهما، يقال لأحدهما منكر وللآخر نكير، يُقعِدان الميت فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد صلى الله عليه وسلم فيجيبهما بما كان يقول قبل الموت فأما المؤمن الكامل فيقول: هو عبد الله ورسوله أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، فيقولان له: إنْ كُنَّا لنعلم أنك لتقول ذلك انظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعدًا من الجنة فيراهما جميعًا، ويعرف حينذاك فضلَ الإسلام معرفةً عيانية كما كان يعرف في الدنيا معرفةً قلبية، ثم يُفسح له في قبره سبعين ذراعًا في سبعين ذراعًا إن كان تقيًّا وينوّر له فيه ويقال له: نم فينام كنوم العروس الذي لا يُوقظه إلا أحب أهله إليه أي بلا قلقٍ ولا وحشة حتى يبعثه الله من مضْجَعه ذلك.

وأما الكافر أو المنافق فيقول في جوابه للملكين: لا أدري كنت أقول ما يقول الناس فيه، فيقال له: لا دريت ولا تليت -أي لا عرفت- إهانة له ثم يُضْرَبُ بمطرقة من حديد بين أذنيه ضربةً لو ضُرِبَ بها الجبلُ لاندك فيصيح صيحةً يسمعها من يليه من حيوان إلا الثَّقَلَين أي الإنسَ والجن فإن الله حجب تلك الصيحة عن أسماعهم ولولا ذلك لما تدافن الناس، ثم يقال للأرض التئمي فتلتئم عليه أي فتضيق حتى تختلف أضلاعه أي تتشابك فلا يزال معذّبًا حتى يبعثه الله تعالى من مضجعه ذلك.

ثم إذا بَلِيَ الجسد كله ولم يبقَ إلا عَجْبُ الذنب يكون روح المؤمن التقي في الجنة وتكون أرواح عصاة المسلمين أهل الكبائر الذين ماتوا بلا توبة بعد بِلَى الجسد فيما بين السماء والأرض. وتكون أرواح الكفار بعد بِلَى الجسد في سِجّين وهو مكان في الأرض السفلى كما قال بعض الفقهاء.

ويُستثنى من سؤال الملكين منكر ونكير النبيُّ وشهداء المعركة والطفل أي الذي مات دون البلوغ.

فإن قيل: كيف يمكن سؤال عدد كثير من الأموات الذين دفنوا في وقت واحد؟ فالجواب ما قال الحليمي: “إن الأشبه أن يكون ملائكة السؤال جماعةً كثيرة يُسمَّى بعضهم منكرًا وبعضهم نكيرًا فيُبعث إلى كل ميّتٍ اثنان منهم”. ويجوز أن يكونا اثنين فقط ولكل منهما أشباح كثيرة تديرها روحٌ واحدة.

حكم منكر عذاب القبر

عذاب القبر لقسم من الناس كالكفار وأهل الكبائر معلوم وقوعه من الدين بالضرورة ولذلك يكفر مُنكر عذاب القبر كما نَصَّ على ذلك عدَّة علماء ومنكره مُكذّبٌ لقول الله تعالى: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا ءالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) سورة غافر، بخلاف منكر سؤاله فلا يكفر لكون ذلك ليس مما عُلِم من الدين بالضرورة ولكنه يفسق إلا أن يكون إنكاره على وجه العناد فإنه يكفر عندئذ.

ضغطة القبر

إن ما يتوهـمه بعض النّاس من أنّ القبر يُضيّقُ على كلّ أحدٍ في البداية ثـم يُوسّع على الـمؤمن غيرُ صحيـح، وهو لا يليق بكرامة الـمؤمن عند الله أي الـمؤمن التقيّ لأنّ بعض العُصاة يـحصل لـهم ذلك برهة من الزمن، وأمّا ما يرويه بعضهم في حقّ سعد ابن معاذ رضي الله عنه أنّ النبـي صلى الله عليه وسلم قال: “لو نجا أحد من ضغطة القبر لنجا سعد” فغير صحيـح وإن صحّحه مَنْ صحّحه، كيف وقد ورد في فضل سعد قوله صلى الله عليه وسلم: “اهتز العرش لـموت سعد بن معاذ” رواه البـخاري، فمن اهتزَّ العرش لموتـه كيف يليق بمقامه أن يصيبه ضغطة القبر. وروى الطبراني أنه صلى الله عليه وسلم وَصَف سعدًا بكونه “قويًّا في أمر الله“، وورد عن عائشة أنـها قالت: “كان في بني عبد الأشهل ثلاثة لم يكن أحد أفضل منهم: سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وعباد بن بشر”.

من أسباب النجاة من عذاب القبر

روى ابن حبان وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “سورة في القرءانِ ثلاثونَ آيةً تستغفرُ لصاحبها حتّى يُغفرَ له ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ“، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لرجل: ألا أطرفك بحديث تفرحُ به؟ قال: بلى يا أبا عباس يرحمك الله، فقال: اقرأ ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُفاحفظها وعلِّمها أهلك وجميع ولدك وصبيان بيتك وجيرانك، فإنها المنجية، وهي المجادلة، تجادل وتخاصم يوم القيامة عند ربها لقارئها، وتطلب إلى ربها أن يُنجيه من النار إذا كانت في جوفه، ويُنجي الله بها صاحبها من عذاب القبر، قال ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “وَدِدْتُ أنّها في قلبِ كل إنسانٍ من أمّتي” رواه الحافظ العسقلاني في المطالب العالية. فمن حافظ على قراءتها كل يوم كان داخلًا في هذا الحديث، وأمّا من قَرَأَها ليلة واحدة ومات في تلك الليلة فلم يَرِد نصٌّ أنه لا يُعذَّب في قبره ولا يُسأَل.

ومن أسباب النجاة من عذاب القبر والآخرة لمن مات قبل التوبة مَنْ مات وقد نال نوعًا من أنواع الشهادات، روى الـحــاكــم فـي الـمــستــدرك أن رســول الله صلى الله عليه وسلم قــال: “الشــهــادةُ سبعٌ سوى القتلِ في سبيل الله: المطعونُ شهيدٌ والغريقُ شهيدٌ وصاحبُ ذاتِ الجنبِ شهيدٌ والمبطونُ شهيدٌ وصاحبُ الحريقِ شهيدٌ والذي يموتُ تحت الهدمِ شهيدٌ والمرأةُ تموتُ بجُمْعٍ شهيدةٌ“، ومعنى: “والمطعونُ شهيدٌ” أي الذي يقتله الطاعون وهو ورم يحدث في مراقّ الجسم أي المواضع الرقيقة منه ويحصل منه حمى وإسهال وقيء، وقد حصل في زمن عمر بن الخطاب طاعون مات فيه سبعون ألفًا، وأما ذات الجنب فهو مرض وهو ورم يكون في الخاصرة بالداخل ثم ينفتح إلى الخارج فيحصل لصاحبه حُمّى وقيء وغير ذلك من الاضطرابات، والذي يقتله بطنه أي يحصل له إسهال أو احتباس لا يخرج منه ريح ولا غائط فيموت، ورد في الحديث: “من قَتَلَهُ بطنُهُ لم يعذَّب في قبرِهِ” رواه الترمذي، والذي يموت بحرق أو بغرق أو تحت الهدم أو بالتردّي من عُلو إلى سُفل فهو شهيد، كذلك المرأة التي تموت بجُمْعٍ أي بألم الولادة.

وهناك أيضًا شهادات أخرى غير هذه المذكورة في هذا الحديث كمَنْ مات غريبًا عن بلده وأهله لحديث: “موتُ الغريبِ شهادةٌ” رواه البيهقي، وكذلك من قُتِل ظلمًا فهو شهيد.

والله تعالى أعلم وأحكم.█