هو العالم الورع والفارس المجاهد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شادي. ولد سنة خمسمائة واثنتين وثلاثين للهجرة في قلعة “تكريت” وهي مدينة تقع على ضفاف دجلة جنوبي بغداد في العراق. كان أبوه واليًا على المدينة ثم انتقل معه إلى الموصل واستقر فيها برعاية عماد الدين زنكي. كان طاهر القلب عفيف اللسان، يرد الحقوق إلى أهلها ويمنع الرشوة ويعاقب عليها، وكان رحمه الله سياسيًّا بارعًا، وقائدًا فذًّا، وفارسًا مقدامًا عم ذكره في الآفاق شرقًا وغربًا.
حُبّه للعلم الدّيني وتقواه
سلك القائد السلطان صلاح الدين مسلك السلف الصالح في المحافظة على الدين والتمسك بالعقيدة الصافية النقية عقيدة أهل الحق. فقد أمر رضي الله عنه بتدريس العقيدة الإسلامية والتي فيها تنزيه الله عن المكان والحيز واللون وسواها من صفات المخلوقين في الكتاتيب والمدارس، وقد ألّف العلامة محمد بن هبة الله المكي رسالة في العقيدة سمّاها “حدائق الفصول وجواهر الأصول” في علم الكلام على أصول أبي الحسن الأشعري رحمه الله، أهداها إلى السلطان صلاح الدين الذي أمر بتعليمها في المدارس للصبية الصغار فعُرِفت بالعقيدة الصلاحية.
وكان رضي الله عنه شافعي المذهب يحفظ القرءان وكتابي التنبيه في الفقه الشافعي والحماسة في الشعر، سمع الحديث من الحافظ أبي طاهر السِّلَفِي وأبي طاهـر بن عـوف والشيخ قطب الدين النيسابوري وعبد الله بن بري النحوي وجماعة روى عنه يونس بن محمد الفارقي والعماد الكاتب وغيرهما.
أخلاقه وسيرته
وكان ملكًا عظيمًا شجاعًا مهيبًا عادلًا يملأ العيون روعة والقلوب محبة عابدًا قانتًا لله لا تأخذه في الله لومة لائم، مجلسه يجمع الفضلاء والفقراء، وأصحابه كأنما هم على قلب رجل واحد محبة به وإجلالًا له. وكان مع ما مرَّ سمحًا جوادًا مجاهدًا في سبيل الله يجود بالمال قبل الوصول إليه، وكان مغرمًا بالإنفاق في سبيل الله، وما كان يلبس إلا ما يحل له لبسه، ومَنْ جالسه لا يعلم أنه جليس سلطان رضي الله عنه. وكان ديّنًا ورعًا زاهدًا كثير العبادة يُحافظ على الصلوات الخمس في أوقاتها جماعة في المسجد، حتى في أيام مرضه كان يتجلّد ويحضرها كما ذكره ابن شداد، وكان مع ذلك مواظبًا على السنن والرواتب وقيام الليل.
ابتداء أمره
قدم به أبوه إلى دمشق وهو رضيع فناب أبوه ببعلبك لما أخذها أتابك زنكي في سنة ثلاث وثلاثين بعد الخمسمائة ثم اتصل والده نجم الدين أيوب بالملك نور الدين الشهيد فخدمه هو وولده صلاح الدين هذا خدمة بالغة.
توليه لمناصب عديدة
ومن انتصار لانتصار…
تولّى صلاح الدين رئاسة شرطة دمشق في عهد نور الدين. وبعد وفاة الأتابك نور الدين بن عماد الدين زنكي عام خمسمائة وتسع وستين للهجرة استقل صلاح الدين بحكم مصر والشام وغيرها، ثم شمّر عن ساعده لتوحيد البلاد الإسلامية وجهز الجيوش لقتال الإفرنج وانتزاع ما بقي من أراضي الشام. كما جهّز جيشًا لاسترداد اليمن وبعثه إليها وعلى رأسـه أخوه توران شاه بن أيوب. وبعد أن جهّز صلاح الدين الجيش، عبر أخوه بالجيوش الإسلامية البحر إلى جدة ومنها إلى مكة حيث دخلها معتمرًا، ثم سار إلى “زبيد” وتمت السيطرة عليها، وتم أسر حاكم “عدن”. كما واصل الجيش تقدمه فملك القلعة في “تعز” وهي من أحصن القلاع، وعامل أهلها بالإحسان وقضى على الانقسام والتشرذم فيها، وقضى على بقايا النفوذ الفاطمي. وقد حكم بنو أيوب اليمن أكثر من نصف قرن من الزمن.
كما أن السلطان صلاح الدين بعث حملة إلى غربي مصر بقيادة “قراقوش” فاستولى على برقة وطرابلس الغرب وتونس. وهكذا تمّ توحيد البلاد الإسلامية في جبهة واحدة تمتد من برقة وتونس غربًا إلى الفرات شرقًا، ومن الموصل وحلب شمالًا إلى النوبة واليمن جنوبًا، وبقي لدى صلاح الدين همٌّ كبير وهو تحرير الأقصى من العدو الجاثم في فلسطين.
النصر الكبير في حطين
تقع قرية حطين غربي “طبرية”، وهي غنيّة بالمياه وفيرة المرعى في جزء منها، وقد دارت المعركة في المنطقة الممتدة بين “طبرية” شرقًا و”صفورية” غربًا، وهذا الجزء جاف وعر قليل المياه إلا من الآبار والينابيع المحلية النادرة. ومع أن استعادة بيت المقدس وتخليص الأقصى من يد الإفرنج كان الهدف الذي يسعى إليه السلطان المجاهد بعد أن وحّد الجبهة الإسلامية وأمّن الحدود، غير أنه لم يشأ أن يكون هو البادئ بالحرب لحنكة هو أرادها، فانتظر حتى بدأ “أرناط” صاحب الكرك المشهور بالخيانة والغدر، فكانت القشة التي قصمت ظهر البعير والشرارة التي أشعلت نيران الحرب، وذلك أن “أرناط” اعتدى على قافلة كانت تمر بالكرك في طريقها من مصر إلى الشام، فنهبها وأسر وقتل من فيها، وقال للأسرى وهو يعذّبهم: “فليأت محمدكم ليخلصكم”، فغضب صلاح الدين ونذر لئن مكّنه الله منه ليقتلنه بيده. ودعا صلاح الدين إلى النفير والتعبئة الشاملة للجهاد. وبعد أن كملت الاستعدادات وجاءت الجيوش الإسلامية متطوعة من شتى الممالك الإسلامية، غادر صلاح الدين دمشق إلى بصرى وبدأ بمهاجمة “الكرك” ثم استولى على “طبرية” واستعصت عليه قلعتها فتركها إلى حين يعود إليها، وبدأ بتحصين موقعه. وهنا تبرز مهارة صلاح الدين العسكرية إذ لم يتقدم بجيوشه إلى المعركة، بل سعى لإجبار العدو على المسير إليه، حتى ينهك جيشهم وخيولهم.
ونشب الخلاف في صفوف العدو وانقسموا إلى رأيين، إذ كان يرى “ريمند” حاكم طرابلس بقاء جيوشهم في صفورية لقربها من ممتلكاتهم في الساحل، وليدفع بجيش المسلمين إلى عبور الصحراء بين “طبرية” و”صفورية” فيتعب ويسهل التغلب عليه، ورأى “أرناط” حاكم الكرك المتعطش لدماء المسلمين الإسراع بالتقدم نحو “طبرية” لمفاجأة صلاح الدين والبطش به، وهكذا غلب رأي “أرناط” وزحفت جيوش الإفرنج والخلافات تعصف بها، بالإضافة إلى الحرارة العالية في الصيف، في الوقت الذي كان فيه جيش صلاح الدين محتفظًا بقواه. ولما وصل خبر زحف جيوش الأعداء قال صلاح الدين: “قد حصل المطلوب وكمل المخطوب وجاءنا ما نريد”.
وهكذا سار جيش العدو بأسلحتهم وخوذاتهم ودروعهم الحديدية، وأشعة الشمس تنعكس على رمال الصحراء فتلهب الجو لهيبًا، حتى كادت أجسامهم تقع تحت ثقل حديد دروعهم ولباسهم الساخن، وذلك يوم السبت لخمس بقين من ربيع الآخر سنة خمسمائة وثلاث وثمانين للهجرة.
ولما بدأت المعركة حاصر المسلمون الأعداء وأحاطوا بهم إحاطة السوار بالمعصم، وأشبعوهم ضربًا وقتلًا وأسرًا. وقد حاول “ريمند” صاحب طرابلس أن يحدث ثغرة في الحصار المضروب عليهم فدبر له تقي الدين، ابن أخ صلاح الدين مكيدة وتظاهر بالهزيمة فأفسح له الطريق ليخرج، فعاد تقي الدين وانضم إلى الجيش والتأمت دائرة المسلمين من جديد، فصار “ريمند” وجيشه خارج جيوش الإفرنج المحاصرة، فآثر النجاة وهرب إلى طرابلس، ومات بعد مدة قليلة حسرة وكمدًا حينما اتهم بالخيانة.
كما لجأ صلاح الدين إلى إشعال النار في الأعشاب اليابسة المحيطة بمعسكر الأعداء فانهارت قواهم وقتل منهم عدد كبير ووقع الباقي في الأسر. وهكذا كان النصر الكبير حليفًا للسلطان صلاح الدين.
وعلى إثر ذلك انهارت الدولة المسماة “أورشليم”، وتمكن السلطان صلاح الدين من استرجاع جميع مدنها وقلاعها، وبدأت المدن تسقط بأيدي المسلمين الواحدة تلو الأخرى لا سيما عكا ويافا وحيفا وصيدا وبيروت وجبيل.
وفاته
ورد في شذرات الذهب أنه في سنة خمسمائة وتسع وثمانين توفي السلطان صلاح الدين الملك الناصر أبو المظفر يوسف بن أيوب بن شادي بن مروان بن يعقوب الدويني الأصل أول دولة الأكراد وملوكهم، وقال ابن خلكان: توفي بقلعة دمشق في السابع والعشرين من صفر وارتفعت الأصوات في البلد بالبكاء وعظم الضجيج حتى إن العاقل يتخيل أن الدنيا كلها تصيح صوتًا واحدًا وكان أمرًا عجيبًا فرحمه الله ورضي عنه اهـ. وقال ابن شهبة في تاريخ الإسلام: صلّى عليه القاضي محي الدين ابن الزكي ثم حمل على الرؤوس إلى “بطن ملحدة” ثم لحده وجلس ثلاثة أيام للعزاء وأنفقت ست الشام أخت السلطان في هذه الأيام أموالًا عظيمة وقد رأى بعض الصالحين النبي صلى الله عليه وسلم في جماعة من أصحابه رضي الله عنهم وقد زاروا قبر صلاح الدين. رحم الله تعالى صلاح الدين رحمة واسعة وجزاه عن أمة الإسلام والمسلمين خير الجزاء.█