الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد النبي الأمّي الأمين، وعلى آله وصحبه الميامين، وكل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. 

بعد وفاة سيدنا هارون وسيدنا موسى آتى الله النبوة لسيدنا يوشع وكان فتى في جيش سيدنا موسى عليه السلام فاستنهض مَنْ بقي معه من بني إسرائيل لدخول أرض فلسطين التي كانوا وُعِدوا بها على لسان موسى عليه السلام في التوراة، فقام سيدنا يوشع عليه الصلاة والسـلام بـما أُمر به إلى وفاته. 

عصوا وكفروا فسلّط الله عليهم الجبارين

ولما توفي سيدنا يوشع عليه السلام تولى أمرهم قضاة منهم وبقوا على ذلك مدة طويلة من الزمن، وفي هذه الفترة دَبَّ إلى بني إسرائيل الوَهن والضعف وفشت فيهم المعاصي والمنكرات، ودخلت الوثنية وعبادة الأوثان والأصنام في صفوفهم فسلّط الله تعالى عليهم الأمم القريبة منهم، فغزاهم العَمَالقة والآراميون وغيرهم، وكانوا إلى الخذلان أقرب منهم إلى النصر في كثير من حروبهم مع أعدائهم، وكان بنو إسرائيل قد قتلوا كثيرًا من الأنبياء فسلّط الله عليهم ملوكًا جبارين يسفكون دماءهم وسلّط عليهم الأعداء من غيرهم، وكانوا إذا قَاتلوا أَحَدًا من الأعداء يكون معهم “تابوت الميثاق” وفيه ألواح موسى وعصاه وهو ما أشارت إليه الآية الكريمة ﴿وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ ءايَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ ءالُ مُوسَى وَءالُ هَارُونَ سورة البقرة/248.

وهكذا انتزع التابوت من بين أيديهم

وبسبب التابوت المارّ ذكره في الآية الكريمة في سورة البقرة، كان بنو إسرائيل يُنصرون ببركته ولوجود التوراة بينهم منذ قديم الزمان وكان ذلك مَورُوثًا لخلفهم عن سلفهم، فلم يزل بهم تَماديهم على الضلال والفساد حتى إذا كانوا في بعض حروبهم مع أهل غزة وعسقلان غلبهم هؤلاء الأعداء على أخذ التابوت فانتزعوه من بين أيديهم وأُخِذت التوراة من أيديهم ولم يبقَ من يحفظها فيهم إلا القليل.

نبيّ الله شمويل

وفي هذه الحروب مات ملكهم الذي كان يقودهم كَمَدًا وبقي بنو إسرائيل كالغنم بلا راعٍ، حتى هيّأ الله تبارك وتعالى لهم غلامًا يقال له: “شمويل” نشأ فيهم وتولاه الله بعنايته وأَنبَتَه نباتًا حسنًا، ثم جعله الله نبيًّا وأَوحى إليه وبعثه إلى بني إسرائيل، وأمره بالدعوة إلى دين الإسلام وتوحيده تعالى وترك عبادة الأصنام، فلما دعا قومه بني إسرائيل إلى دين الله طلبوا منه أن يُقيمَ عليهم ملكًا يُقاتلون معه أعداءهم لأنّ ملكهم كان قد هلك وباد فيهم، فكان من أمرهم ما قصّ الله تعالى علينا في القرءان، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) سورة البقرة، أي وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله وقد أخذت منّا البلاد وسُبيت الأولاد، قال الله تعالى: ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) سورة البقرة، أي ما وفَوا بما وعدوا بل نكلوا عن الجهاد إلا القليل منهم والله عليم بهم.

وأَوحى الله تعالى إلى نبيه شمويل أن يجعلَ عليهم “طالوت” مَلِكًا وكان رَجُلًا من أجنادهم ولم يكن من بيت الـمُلك فيهم، فملَّكه الله تعالى عليهم لِقُوتِه الجسمية والعلمية، ولكنَّ بني إسرائيل تمردوا على توليه الـمُلك وقالوا لنبيهم ما أخبر الله عنه بقوله: ﴿أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِسورة البقرة/247، أي قالوا: كيف يقوم طالوت بالملك علينا مع كونه ليس من بيت الملك ومع هذا هو فقير لا مال له؟ فقالوا: نحن أحق بالملك منه وهو لا يصلح لذلك، وقد ذكر بعضهم أنه كان سَقّاءً، فأجابهم نبيُّهم قائلًا ما أخبر الله عنه في القرءان بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن يَشَآء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) سورة البقرة، أي اختاره لكم من بَينكم والله أعلم به منكم وهو مع هذا قد وهبه الله وزاده بالعلم والجسم، فهو أشد قوة وصبرًا في الحرب ومعرفة بها، أي هو أتم علمًاوقوة في الجسم وقامة منكم.

وهكذا عاد التابوت لبني إسرائيل

وأصبح طالوت مَلِكًا على بني إسرائيل وأيّده الله تعالى بعودة التابوت الذي فيه ألواح موسى وعصاه إليهم بعد أن نزعه منهم أعداؤهم وكان هذا علامة على بركة مُلك “طالوت” عليهم، قال تعالى: ﴿وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ ءايَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ ءالُ مُوسَى وَءالُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ سورة البقرة/248.

واختار مَلِكهم طالوت الجُنودَ الأقوياء الأَشداء وخرج بهم لقتال عدوهم، وفي الطريق اشتد بهم الظمأ في رحلة برية طويلة وشاقّة وكانوا ثمانين ألفًا، ومَرُّوا في طريقهم بنهر بين الأردن وفلسطين على ما قيل، فأراد ملكهم أن يختبرهم فأمرهم ألا يشربوا منه إلا من أخذ جَرعة من الماء ليبل بها ظمأه، وكان ذلك اختبارًا وامتحانًا من طالوت لجنوده في قوة بأسهم وإرادتهم، قال الله تعالى: ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ سورة البقرة/249.

ولم يَبقَ مع طالوت إلا عددٌ قليل قُدّر بثلاثمائة وبضعة عشر رجلًا، فتابع بهم مَلكهم طالوت لِقتال أعدائهم الكافرين المشركين، وأما بقية الجنود الثمانين ألفًا فقد رجعوا حيث إن إرادتهم كانت ضعيفة خَوّارة، فلذلك لم يَصحبهم طالوت معه لقتال خصومه المشركين والذين كان على رأسهم الملك “جالوت” الذي كان جَبَّارًا طاغيًا يهابه الناس من بني إسرائيل.

ولـمّا جاوز طالوت عليه السلام والمؤمنون الذين بقوا معه النهر استقل أصحابه هؤلاء أنفسهم عن لقاء عدوهم لكثرتهم ولجبروت ملكهم إلا قليلًا منهم ممن ثبّت الله تعالى قلوبهم وقوّى عزيمتهم، وكان فيهم العلماءُ العاملون، لذلك أخذوا يثبتون إخوانهم المؤمنين ويقوون عزائمهم ويذكرونهم بنصر الله وأن النصر من عند الله ينصر من يشاء من عباده، يقول الله تعالى إخبارًا عن هذين الفريقين الذين جاوز بهم طالوت النهر لقتال الكافرين: ﴿فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) سورة البقرة.

بَدء أمر سيدنا داود ومكانته بين بني إسرائيل وبيان قوة جهاده في سبيل الله

ولـمّا تقدمَ طالوت ومن معه من المؤمنين من بني إسرائيل إلى جالوت ومَنْ معه من المشركين وتصافوا للقتال، طلب ملكهم جالوت قَبل بدء المعركة المبارزة فتقدم إليه فتى شجاع يُسمى داود وهو من سبط يهوذا بن يعقوب وكان هو وأبوه “إيش” في جيش طالوت.

فلمّا أقبل داودُ على جالوت احتقره جالوت وازدراه وقال له: “ارجع فإني أكره قتلك” فما كان من داود إلا أن قال له بكل شجاعة وجُرأة: ولكني أحبُّ قتلك، ثم حصلت مبارزة بين جالوت الطاغية وداود عليه السلام، فقتل داودُ جالوتَ ثم التحم القتال، وانهزم جيش جالوت من المشركين شر هزيمة، يقول الله تبارك وتعالى إخبارًا عن ذلك: ﴿وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَءاتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) سورة البقرة.

وكان طالوت عليه السلام قد وَعَد داود أنه إن قتل جالوت أن يُزوجه ابنته ويشاطره نعمته ويشركه في أمره، فوفى له وعده. ثم آلَ الملك إلى داود عليه السلام مع ما منحه الله تعالى من النبوة العظيمة والعِلم الوافر، ومنذ ذلك الحين لمع اسم داود بين شعب بني إسرائيل وتتابعت الانتصارات على يديه، وأعز الله تعالى بني إسرائيل بعد أن كانوا في ذل وهوان، وكان بنو إسرائيل قد اجتمعوا بعد وفاة ملكهم طالوت على مبايعة داود عليه السلام على الـمُلك فأصبح مَلكًا عليهم وكان عمره لا يزيدُ على ثلاثين سنة وقد حكم شعبه بالعَدل، وطبّق عليهم أحكام شريعة التوراة.

والله تعالى أعلم وأحكم.█