يختلف تعريف الرجولة بين شخص وآخر وبين زمن وآخر وبين قوم وقوم آخرين، لكن مع اختلاف الأزمنة واختلاف الحضارات والشعوب والأقوام والثقافات، تبقى هناك خصال موحدة تعطي للذكر صفة الرجولة. واختلف الناس في تفسير الرجولة وصفاتها فمنهم من قال: إن الرجولة قوة وشجاعة، ومنهم من قال: إنها قيادة وزعامة، ومنهم من فسّر الرجولة بالرجل الكريم المضياف، ومنهم من ربط معنى الرجولة بمدى تحصيل المال والاشتغال بجمعه إلى غير ذلك من الخصال، ومنهم من جمع تلك الخصال كلها ليعطي للرجل معنى الرجولة. 

لكن لا أحد ينكر أن هناك أشخاصًا وشخصيات مَرّوا عبر العصور كانوا ولا يزالون يمثّلون صورة للرجولة وخصالها ولذلك نورد بعض أخبار الرجال، الرجال الذين أثبتوا للعالم أجمع ولكل الشعوب والعصور أن الرجولة هكذا تكون.

فعن الرجولة أتحدث عندما أتحدث عن أبي بكر الصديق عندما جهّز أسامة ابن زيد وأمره بالمسير إلى أرض مؤتة وخرج يودّعه خارج المدينة ماشيًا وأسامة راكبًا وقال له: “أوصيكم بعشر خصال فاحفظوها: لا تخونوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثّلوا ولا تقتلوا الطفل ولا المرأة ولا الشيخ ولا تحرقوا نخلًا ولا تقطعوا شجرًا ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرًا إلا للأكل، وإذا قرب إليكم الطعام فاذكروا اسم الله عليه وكلوا” ثم ودعه ورجع.

وعن الرجولة أتحدث عندما أتحدث عن وصف الإمام علي بن أبي طالب لسيدنا أبي بكر الصديق يوم وفاته فقال: “يرحمك الله يا أبا بكر لقد كنتَ والله أول القوم إسلامًا وأشدهم يقينًا وأعظمهم وأحفظهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحدَّهم على الإسلام وأحماهم على أهله وأنسبهم برسول الله خلقًا وخُلُقا وهديًا وسمتًا فجزاك الله عن الإسلام خيرًا وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم  خيرًا. صدَّقت رسول الله صلى الله عليه وسلم  حين كذّبه الناس وواسيته حين بخلوا وقمتَ معه حين قعدوا، كنت والله للإسلام حصنًا وللكافرين ناكسًا لم تغلب حجتك ولم تضعف بصيرتك ولم تجبن نفسك، كنت كالجبل لا تحركه العواصف ولا تزيله القواصف كنت كما قال رسول الله ضعيفًا في بدنك قويًا في دينك متواضعًا في نفسك عظيمًا عند الله جليلًا في الأرض كبيرًا عند المؤمنين لم يكن لأحد عندك مطمع ولا هوادة، فالضعيف عندك قوي والقوي عندك ضعيف حتى تأخذ الحق من القوي للضعيف لا حرمنا الله أجرك ولا أضلنا بعدك” هكذا وصف الإمام علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه أبا بكر الصديق وكأنما لَخَّصَ معنى الرجولة في هذه الأوصاف.

وعن الرجولة أتحدث عندما أتحدث عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه في يوم من أيام الرمادة، وهي سنة كان فيها قحط شديد، نحر المسلمون جَزورًا ووزعوها على الناس، وكانوا قد ادخروا له أطيب ما فيها دون أن يعلم، فلما قُدّمت له قال: أنَّى هذا؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين، من الجَزور التي نحرنا اليوم، فقال: “بئس الوالي أنا إن أكلت أطيبها وأطعمتُ الناس كراديسها”، فأمر بخبز وزيت فجعل بيده يكسر الخبز ويثرده.

وعن الرجولة أتحدث حين أتحدث عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فيما رواه عنه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: كان عمر بن الخطاب يقول: “لو مات جَدْيٌ بطَفّ -جانب- الفرات لخشيتُ أن يحاسب الله عمر”.

وعن الرجولة أتحدث عندما أتحدث عن عثمان بن عفان رضي الله عنه فيما رواه الإمام أحمد عن الحسن رضي الله عنه أنه سُئِلَ عن القائلين في المسجد -أي الذين ينامون أو يستلقون في المسجد عند منتصف النهار- فقال: رأيت عثمان بن عفان يَقِيلُ في المسجد وهو يومئذ خليفة وأثَّر الحصى بجنبه فيقال: هذا أمير المؤمنين هذا أمير المؤمنين. وعن شرحبيل بن مسلم أنه قال: كان عثمان رضي الله عنه يُطعم الناس طعام الإمارة ويَدخل بيته فيأكل الخل والزيت.

وعن الرجولة أتحدث عندما أتحدث عن عمر بن عبد العزيز حين قال يومًا لزوجته فاطمة بنت عبد الملك وكان عندها جواهر كثيرة أمر لها أبوها بها:  “اختاري إما أن تردي حُليّك إلى بيت المال وإما أن تأذني لي بفراقك فإني لأكره أن أكون أنا وأنت وهو في بيت واحد”.

وعن الرجولة أتحدث حين أتحدث عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه كان مع أصحابه ليلًا فهبّـت ريح أطفأت السراج فقـــام وأشعله، قالوا: لـو أمرت أحدنا يا أمير المؤمنيـن لقام، قال: “ما ضرّني؟ قمتُ وأنا عُمر ورجعتُ وأنا عُمر”.

نستحي بأنفسنا

لقد وصلنا اليوم إلى زمن نسمع بمآثر هؤلاء الرجال فنبتسم ابتسامة خفيفة، هذا إن ابتسمنا، ونتابع حياتنا اليومية وكأننا لم نسمع شيئًا. نتكلم اليوم عن الرجال في زمن كثر فيه أشباه الرجال. نتحدث عن الرجولة في زمن أصبح فيه المال والجاه عند كثيرين مقياسًا للرجولة وأصبحت طـيـبـة الـقـلـب والـتـواضـع “مـلـطشـة” المجتمع. نتحدث عن الرجولة اليوم في زمن أصبح الرجل من وجهة نظر البعض فاقدًا لرجوليته إن لم يؤدب زوجته بالضرب والإهانات والكلام البذيء. نتحدث عن الرجولة اليوم في زمن ابتعد الرجال بمعظمهم عن معنى الرجولة وآداب الرجولة وأخلاق الرجولة التي علّمنا إياها الشرع والنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وكان الصحابة الكرام من خير الأمثلة على هذه الرجولة التي نتحدث عنها.

أصبحنا نرى اليوم في شوارعنا ومجتمعاتنا ما يدعونا إلى الخجل من أنفسنا وإلى الاستحياء من أنفسنا، أصبحنا نرى الشاب في عمر السادسة عشر يعمل الأشكال والألوان العجيبة والغريبة بشعره وثيابه بدعوى أنها آخر صيحة وأن الفنان أو اللاعب الفلاني هو أول من بدأ هذه الصيحة ونسوا أن السلطان محمدًا الفاتح فتح بلاد القسطنطينية وهدم تلك الإمبراطورية العظمى وهو ابن اثنين وعشرين سنة. أصبحنا نرى بوصلة أولادنا تتحول من الاستماع إلى أخبار العظماء والقادة المسلمين إلى متابعة أخبار الفساق والكفار ومتابعة تنقلاتهم وصورهم على وسائل التواصل الاجتماعي.

أصبحنا نرى أن نظرة المجتمع اختلفت للرجال ولمقاييس الرجال ومثال ذلك إن أتى أحد لخطبة بنت نرى أهلها يسألونه عن ماله وأملاكه وبيته متغافلين السؤال عن دينه وأخلاقه، وإن قيل لهم إن هذا الرجل لا يصلي يقولون: الله الهادي، وربما غفلوا أن الله الهادي والرازق، فالله قادر على أن يرزق فلانًا من الفقراء كما هو قادر على هداية فلان من الفساق.

إن المجتمع اليوم بحاجة لأناس يذكروننا بمعنى الرجولة، رجال كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، رجال كالشافعي وأحمد بن حنبل ومالك وأبي حنيفة، رجال كأبي عبيدة بن الجراح وأبي موسى الأشعري ومعاذ بن جبل وعمار بن ياسر، فهؤلاء هم الرجال وهؤلاء من نتحدث عنهم عندما نتحدث عن الرجولة.█