الحمد لله الذي خلق فسوى والذي قدّر فهدى، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المصطفى وعلى آله وصحبه أهل التقى والوفا ومن لآثارهم اقتفى.
أما بعد فيقول الله تعالى في القرءان الكريم: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)﴾ سورة القلم.
سيدي يا رسول الله يا مَن أكرمنا الله تعالى باتباعك ومنّ علينا بأن جعلنا من أمتك وفضّلك على جميع خلقه تفضيلًا وقال فيك: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)﴾ سورة الشرح، وقلت يا سيدي عن نفسك: “أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر” رواه الترمذي.
هدى الله بك عقلاء الرجال وفتح بك أعينًا عميًا وقلوبًا غلفًا وآذانًا صمًّا وأخرج بك الناس من الظلمات إلى النور فلا نترقى إلا بهديك ولا نجاة لنا إلا بك، فإن نجونا من لظى النيران يوم القيامة وننجو إن شاء الله فإنما نجاتنا لأن الله تعالى قد هدانا بك، وإن دخلنا جنة عرضها السموات والأرض وندخلها إن شاء الله تعالى فإنما ندخلها لأننا اهتدينا بك فطوبى لمن آمن بك وصدقك وشهد أن ما جئت به الحق من غير تبديل ولا تحريف واستقام في طاعة ربه عزّ وجلّ وكنت له يا سيدي القدوة والأسوة كيف لا وقد قال ربنا تبارك وتعالى فيك: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)﴾ سورة الأحزاب، فما أحوجنا يا سيدي أن نقرأ سيرتك وما جاء في أخبارك فأنت أولى من ينبغي أن يُقتدى به وأعظم من نتأسى به فأنت النعمة الكبرى والرحمة المهداة. ومن دلائل شرفك وعظمتك أن جعل الله عزّ وجلّ طاعتك طاعة له فقال: ﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ سورة النساء/80، وأمر المؤمنين بالصلاة والسلام عليك أمرًا مطلقًا غير مقيّد بحال وحين فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)﴾ سورة الأحزاب، وشرّفك بمحبته تعالى لك وهباته العظيمة التي منّ بها عليك فقال سبحانه: ﴿وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)﴾ سورة الضحى، فالحمد لله أن جعلنا من أمتك التي هي خير أمة أخرجت للناس ورزقنا الثبات على عقيدتك الغرّاء عقيدة التوحيد وتنزيه الله تعالى عن الحدّ والجسم والجهة والمكان وكل ما كان من صفات المخلوقين، ونسأله تبارك وتعالى أن يُتم علينا نعمته بالوفاة على دينك دين جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الإسلام.
سيدي يا رسول الله ما أعظمك وكل ما فيك عظيم. ما أعظمك في مولدك بل وقبل مولدك وأنت في بطن أمك السيدة آمنة حيث كانت ترى الطيور عاكفة عليها إجلالًا لك، وكانت إذا جاءت تستقي من بئر صعد الماء إليها إكرامًا لك وأنت في أحشائها وحين ولدت خرج معك نور أضاءت له قصور بصرى الشام وغاضت بحيرة ساوى وتصدّعت شرفات كسرى وصاح إبليس ورنّ رنّة عظيمة كما رنّ حين لُعن وحين نزلت سورة الفاتحة، وما أعظم بركتك في بني سعد حين كفلت حليمة السعدية أمر رضاعتك فعمّ السعد كل بني سعد وظهر أثر بركتك جليًّا كالشمس وحين عادت بك حليمة إلى أمك فارقتك وكبدها من الفراق كليمة.
ما أعظمك يا سيدي في نشأتك وفي شبابك في مكة أم القرى حيث عرفوك صادقًا أمينًا ما جرّبوا عليك كذبًا قط ولا رذيلة قط ولا دناءة ولا خسة قط فما وجدوا حين صدعت فيهم بما أمر الله تعالى شيئًا يعيبونه عليك فلفّقوا التهم والافتراءات والأباطيل فكان ثباتك يا سيدي كالجبال الراسيات وصبرك لا يلين للطغاة، حرصت على هداهم وحرصوا على تكذيبك، ودعوتهم لما فيه نجاتهم وفلاحهم في الدنيا والآخرة فأبوا إلا الكيد والأذى ولكن هيهات هيهات وهل يحجب نور الشمس غبار أثاره نابح يعدو لغرض خسيس بل يأبى الله إلا أن يُتم نوره ولو كره المشركون فلقد سعوا سعاية الشرّ وساوموا بغرض الدنيا ومتاعها الزائل فكان الردّ قويًّا وقاطعًا وعظيمًا وجليلًا حيث قلت لعمك أبي طالب وقد كلّموه فيك: “يَا عَمِّ لَوْ وُضِعَتِ الشَّمْسُ فِي يَمِينِي وَالْقَمَرُ فِي يَسَارِي مَا تَرَكْتُ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللهُ تَعَالَى أَوْ أَهْلِكَ فِي طَلَبِهِ” رواه البيهقي، فخسئ كل جبار عنيد وخاب كل مجرم رعديد.
وما أعظمك يا سيدي قائدًا بطلًا مجاهدًا مظفرًا تسير من نصر إلى نصر داعيًا لدين الله شجاعًا لا تخشى في الله لومة لائم إذا اعترت الناس المخاوف أسرعت بنفسك إلى كشفها وإزالتها، وفي هذا المقام نتذكر قول صاحبك وخادمك الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه حيث قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة من صوت سمعوه فانطلق ناس قِبَلَ الصوت فتلقاهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعًا وقد سبقهم إلى الصوت واستبرأ الخبر على فرس لأبي طلحة عُري أي من غير سرج والسيف في عنقه وهو يقول: “لن تراعوا” رواه الشيخان، وعن علي رضي الله عنه أنه قال: كنّا إذا اشتد البأس واحمرّت الحدق اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا إلى العدو وكان من أشد الناس بأسًا يومئذ على الأعداء. ولم يكن قتاله صلى الله عليه وسلم للدنيا ولا طمعًا بالمال أو الملك بل لنشر الخير والحق والفضيلة بل لقد كان رحيمًا رؤوفًا عطوفًا حتى في غزوه وفي انتصاره ولقد دخل مكة فاتحًا بعدما أخرجوه منها وأقاموا على بابه يريدون قتله وتعقبوه للنيل منه وعذّبوا من عذّبوا من أصحابه، فقتلوا ياسر بن عامر والد سيدنا عمار رضي الله عنه وقتلوا سمّية بنت خياط أم عمار أيضًا، ونالوا من عمار حتى نجّاه الله منهم وأخذوا بلالًا وبطحوه على الرمال وجعلوا الحجارة على صدره وهو يقول: أحد أحد، وعذّبوا خبابًا فكانوا يحمّون صفائح الحديد بالنار ويحرقونه بها وفعلوا وفعلوا ما يطول ذكره وسرده ثم أمكنه الله تعالى منهم فوقعوا في قبضته وتحت إمرته صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف صحابي بعتادهم وسلاحهم فيقول صلوات ربي وسلامه عليه: “ما ترون أني صانع بكم“؟ فقالوا: خيرًا أخ كريم وابن أخ كريم فقال وهو البرّ الشفوق الصفوح الذي ما انتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمات الله تعالى فينتقم لله بها: “اذهبوا فأنتم الطلقاء” رواه البيهقي، فدخل الناس في دين الله أفواجًا. ويضطجع صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته مرة تحت شجرة وقد علّق السيف على غصن من أغصانها فيأتي أحدهم ويأخذ السيف ويقول: يا محمد من يمنعك مني فيجيب صلى الله عليه وسلم بكل ثقة وتوكل على رب العالمين: “الله” فيرتجف الرجل ويسقط السيف من يده ويأخذه صلى الله عليه وسلم فيقول له: “من يمنعك مني“؟ فيقول الرجل: كن خير آخذ، فخلّى صلى الله عليه وسلم سبيله فأسلم الرجل ثم أتى قومه قائلًا: جئتكم من عند خير الناس، رواه الحاكم.
سيدي يا رسول الله ما أنبلك وأكرمك وأفضلك وأرحمك، ما أنبلك مع أصحابك وأنصارك ولقد قرأنا في سيرتك الميمونة ما أخرجه الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلقى الرجل فيقول: “يا فلان كيف أنت”؟ فيقول: بخير أحمد الله، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: “جعلك الله بخير” رواه الإمام أحمد، وعن أنس رضي الله عنه أيضًا قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزور الأنصار ويسلّم على صبيانهم ويمسح رؤوسهم رواه النسائي وغيره، ويروي الحاكم بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بعض بيوته فدخل عليه أصحابه حتى غصّ المجلس بأهله وامتلأ فجاء جرير ابن عبد الله البجلي رضي الله عنه فلم يجد مكانًا فقعد على الباب فنزع رسول الله صلى الله عليه وسلم رداءه وألقاه إليه فأخذه جرير رضي الله عنه فألقاه على وجهه وجعل يقبّله ويبكي ورمى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ما كنت لأجلس على ثوبك أكرمك الله كما أكرمتني فنظر النبي صلى الله عليه وسلم يمينًا وشمالًا وقال: “إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه” رواه أبو نعيم وغيره.
وما أفضلك وأرحمك وأنت من هدى الله بك الملايين إلى سعادة الدنيا والآخرة بما يصلح أمر دينهم ودنياهم فبعثت وأهل الأرض في فوضى عارمة وشرّ مستطير فالوليدة تدفن بلا ذنب والضعيف يُظلم والمرأة تُمنع حقها وجباه تخضع لصنم منحوت فقمت لله داعيًا ولنشر الحق ساعيًا فهدى الله بك الأمة وكشف بك الغمة فكنت الرحمة المهداة والنعمة الكبرى وقال ربك عزّ وجلّ فيك: ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (128)﴾ سورة التوبة، وقال أيضًا: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107)﴾ سورة الأنبياء، فكنت أرحم بالمؤمنين وأولى بهم وأعطف عليهم وأنفع لهم من أنفسهم لأنفسهم وشواهد ذلك كثيرة، فقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة اقرؤوا إن شئتم: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾” سورة الأحزاب/6، فصلّى الله وسلّم عليك يا سيدنا ومولانا وحبيبنا وقرة أعيننا. وإذا ما حنّ إليك جذع الخشب اليبيس وشكا إليك البعير وسبحت الحصى في يمناك فنحن أولى بالحنين والشوق للقياك في المنام واليقظة إن شاء الله رب العالمين.
اللهم أكرمنا برؤية نبيك صلى الله عليه وسلم وارزقنا يا ربّ زيارته وشفاعته يا أرحم الراحمين.
والحمد لله رب العالمين.█