الحمد لله، رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد النبي الأمّي الأمين، وعلى آله وصحبه الميامين، وكل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. 

أما بعد فقد ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عشرة رجال سرية عينًا -أي للمراقبة- وأمَّر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري، فانطلقوا حتى إذا وصلوا إلى مكان يقال له الهَدأة وهو بين عسفان ومكة، وصل خبرهم لبني لحيان -حيٍّ من هذيل- فخرجوا لملاقاتهم في مائتي رجل من الرماة فاقْتَصُّوا آثارهم حتى وجدوا مأكلهم تمرًا تزوَّدوه من المدينة فقالوا: هذا تمر يثرب. فلما رآهم عاصم وأصحابه لجؤوا إلى موضع مرتفع من الأرض فأحاط بهم المشركون وقالوا لهم: انزلوا وسلّمونا أنفسكم ولكم العهد والميثاق أن لا نقتل منكم أحدًا، فقال عاصم بن ثابت أمير السرية: “أما أنا فوالله لا أنزل اليوم في ذمة كافر، اللهم أخبر عنّا نبيّك”. فرموهم أي المشركون بالنبل فقتلوا سبعة من بينهم عاصم، وسلّم الباقون أنفسهم لهم بالعهد والميثاق الذي أخذوه عليهم، وكان منهم خُبيب الأنصاري وابن دَثِنَة ورجل آخر، فلما تمكنوا منهم أطلقوا أوتار قِسِيّهم فأوثقوهم فقال الرجل الثالث: “هذا أول الغدر والله لا أصحبكم، إن في هؤلاء -يريد الشهداء- لأسوة” فأصرّوا عليه على أن يرافقهم فأبى فقتلوه فانطلقوا بخُبَيب وابن دَثِنَة حتى باعوهما بمكة، وكان ذلك بعد وقعة بدر فابتاع خُبَيبًا بنو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، وكان خُبَيب قد قتل الحارث ابن عامر يوم بدر فلبث خبيب عندهم أسيرًا، ثم إنه حين اجتمع القوم -يعني بني الحارث- على قتل خُبَيب استعار من بنت الحارث موسى يستحدّ بها فأعارته فذهب ابنها وهي غافلة حتى أتى خُبَيبًا، ثم وجدته وقد أجلسه خُبَيب على فخذه والموسى بيده ففزعت فزعة عرفها خُبَيب في وجهها فقال: “تخشين أن أقتله؟ ما كنتُ لأفعل ذلك”. وقالت بنت الحارث: “والله ما رأيتُ أسيرًا قط خيرًا من خُبَيب، والله لقد وجدته يومًا يأكل من قطف عنب في يده وإنه لموثق في الحديد وما بمكة من ثمر”، وكانت تقول: “إنه لرزق من الله رزقه خُبَيبًا”، فلما خرجوا من الحرم ليقتلوه في الحل قال لهم خُبَيب: “ذروني أركع ركعتين” فتركوه فصلّى ركعتين ثم قال: “لولا أن تظنّوا أن ما بي جزع لطوّلتها، اللهم أحصهم عددًا” -أي لا تُبق منهم أحدًا- ثم أنشد:

ولستُ أُبالي حينَ أُقتَلُ مُسلمًا    

 

على أيّ شِقٍّ كان لله مَصْرَعِي

وذلك في ذَاتِ الإلَهِ وإنْ يَشَأْ 

 

يُبَارِكْ على أوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ

ثم قتل ابن الحارث خبيبًا فكان خُبَيب هو أول من سنَّ الركعتين لكل امرئ مسلم يُقتل صبرًا أي محبوسًا.  

واستجاب الله لعاصم بن ثابت يوم أصيب، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه خبرهم وما أصيبوا به. ولما علم كفار قريش بقتل عاصم بعثوا رسولًا ليأتي بشىء من أثر عاصم يُثبت أنه قُتِل، فلما ذهب رسولهم إليه بعث الله على عاصم مثل الظُّلَّة من الدَّبْر -أي جماعة النحل- فحَمَتْه من رسولهم فلم يقدروا على أن يقطعوا من لحمه شيئًا، وقد روى هذه الحادثة البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه.█