الحمد لله رب العالمين، وصلّى الله وسلّم وبارك على عبده ورسوله الأمين، المبعوث بالحق رحمة للعالمين، وعلى آله وصحابته ومن تبع سنته إلى يوم الدين. 

أما بعد فقد قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءامَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا﴾ سورة الحجرات/15، أي لم يشكوا، لأن الشك ينافي اﻹيمان. وعندما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان قال: “أن تُؤمِنَ بالله وملائكته وكُتُبه ورُسله واليومِ الآخِرِ وتُؤمِنَ بالقدرِ خيرِهِ وشَرِّه” رواه مسلم. فيجب الإيمان باليوم الآخر أي يوم القيامة، وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يكون فيه البعث من القبور والحشر وغير ذلك، فيجب الإيمان بذلك من غير شك.

اليوم الآخر

هو يوم القيامة وأوّله من خروج الناس من قبورهم إلى استقرار أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، وفي ذلك اليوم تدنو الشمس من رؤوس العباد وتحصل فيه أحوال صعبة ينجو منها المؤمنون الأتقياء، ويُجمع الناس للحساب فتُعرض عليهم أعمالهم سواء كانت خيرًا أم شرًّا، وتوزن أعمالهم بميزان فتوضع الحسنات في كفة والسيئات في الكفة الأخرى.

ومواقف القيامة خمسون موقفًا، كل موقف مقداره ألف سنة من سنوات الدنيا، قال الله تعالى: ﴿فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)﴾ سورة المعارج. لكن هذه المدة الطويلة تكون على التقي مقدار صلاة الفريضة ففي صحيح ابن حبان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قرأ: ﴿فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)﴾ سورة المعارج، فقيل: ما أطول هذا اليوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “والذي نفسي بيده إنه ليُخفّف على المؤمن -أي الكامل- حتى يكون أخفَّ عليه من صلاةٍ مكتوبةٍ يُصلّيها في الدنيا“. فمن صبر في الدنيا على أداء الواجبات واجتناب الـمحرمات يقصر انتظاره في ذلك اليوم، فاحرص أن تكون من أولئك الـمؤمنين ما بقي لك نَفَس من عمرك، واعمل في الدنيا في أيام قصار لأيام طوال تربح ربحًا عظيمًا.

البعث من القبور

البعث حق واقع يجب الإيمان به، وتشير إليه كثير من الآيات الواردة في كتاب الله عز وجل، قال الله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ ءاتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ (7)﴾ سورة الحج، وقال تعالى: ﴿وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)﴾ سورة الانفطار، أي قُلِبَت فاستُخرج مَن فيها من الموتى أحياء، وقال تعالى: ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ﴾ سورة الأنبياء/104، وغير ذلك من النصوص القاطعة ببعث الأجساد.  

وروى الهيثمي في مسنده أن أُبيّ بن خلف جاء بـعظمِ حائلٍ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففتَّه بين يديه، فقال: يا محمد، أيبعثُ الله هذا بعد ما أَرِم؟ -أي بلي- قال: “نعم، يبعثُ الله هذا، ثم يُميتك، ثم يُحييك، ثم يُدخلك نار جهنم” قال: فنزلت الآيات التي في آخر سورة يس/77: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ﴾ إلى آخر السورة.

والبعث هو خروج الموتى من القبور التي دفنوا فيها بعد إعادة الجسد الذي أكله التراب إن كان من الأجساد التي يأكلها التراب وهي أجساد غير الأنبياء لقوله صلى الله عليه وسلم: “إن الله عز وجل حرَّم على الأرض أن تأكلَ أجسادَ الأنبياء” رواه البيهقي. وكذلك شهداء الـمعركة الذين ماتوا في قتال الكفار لا تأكل الأرض أجسادهم لما تواتر من مشاهدة أجساد الشهداء لم تتغيّر بعد سنين طويلة من دفنهم، وقد شوهد هذا في شهداء أُحد وغيرهم، وكذلك بعض الأولياء لا تأكل الأرض أجسادهم، فقد ثبت مشاهدة بعض الأولياء الذين لم تبل أجسادهم بعد مدة طويلة من دفنهم، ومنهم الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى، فُتح قبره بعد أكثر من سبعمائة سنة من دفنه فوجد صحيح الجسم والكفن.  

وأول من ينشق عنه القبر هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كما أخبر بذلك، روى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أنا أولُ من تنشقُّ عنه الأرضُ يومَ القيامة فأفيقُ فأجدُ موسى مُتعلّقًا بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أَجُزِيَ بصعقة الطور -أي فلم يصعق عند النفخة الأولى في البوق لأنه كان صعق في الدنيا قبل ذلك- أو أفاق قبلي” وإذا كان نبينا صلى الله عليه وسلم لا يدري هل يسبقه موسى عليه الصلاة والسلام بالإفاقة أو لا فنحن أولى بأن لا ندري أيهما يبعث أولًا، وأما غير الأنبياء فقد رُوي ما يدل على أن أهل مكة والمدينة والطائف يكونون من أول من يُبعث ويُشفع له، روى الطبراني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “أولُ مَنْ أشفعُ له من أمتي أهل المدينة ثم أهل مكة ثم أهل الطائف“. وإنما قيل عن أهل مكة والمدينة والطائف من أول من يبعث لأن الأنبياء هم أول من يبعث.

الحشر

الحشر أي الجمع يكون بعد البعث فيُجمع الناس إلى أرض الـمحشر، قال الله تعالى: ﴿وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47)﴾ سورة الكهف، أي جمعناهم إلى الموقف فلم نترك منهم أحدًا، وقال تعالى: ﴿وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)﴾ سورة البقرة.

وقد جاء في الأحاديث الصحيحة أن أرض الشام هي أرض المحشر، فإما أن يكون المراد أن أرض الشام تُـمَدّ لتكون محشر كل الناس وإما أن يكون المراد أنهم يتوجهون إليها من النواحي المختلفة وإن كان قسم منهم لا يصلها. ثم ينقلون عند دكّ الجبال إلى ظلمة عند الصراط ثم يُردّون بعد تبديل الأرض إلى الأرض المبدلة وهي أرض بيضاء كالفضة، ليس عليها شجر ولا وديان ولا جبال وعليها يكون الحساب أي على الأرض الـمبدلة يكون عرض الأعمال على العباد، كل واحد يعرض عليه ما عمل في الدنيا ثم يجزون بعد ذلك على حسناتهم بالنعيم الـمقيم وعلى سيئاتهم بالعذاب الأليم.

ويكون الحشر للناس على ثلاثة أحوالٍ، قسم منهم طاعمون كاسون راكبون على نوقٍ رحائلها من ذهب، وهم الأتقياء. روى الإمام أحمد عن النعمان بن سعد أنه قال: كنا جلوسًا عند علي رضي الله عنه فقرأ هذه الآية ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85)﴾ سورة مريم، وقال: لا والله ما على أرجلهم يحشرون، ولا يحشر الوفد على أرجلهم، ولكن على نوق لم تر الخلائق مثلها، عليها رحائل من ذهب فيركبون عليها حتى يصلوا أبواب الجنة.

وقسم ثانٍ يحشرون حفاةً عراةً وهم المسلمون من أهل الكبائر.

وقسم ثالث يحشرون وهم يجرّون على وجوههم وهم الكفار بأنواعهم.

روى الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: إن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم حدثني “أن الناس يحشرون على ثلاثة أفواج: فوج راكبين طاعمين كاسين، وفوج يمشون ويسعون، وفوج تسحبهم الملائكة على وجوههم وتحشرهم إلى النار“. فالناس يوم القيامة في الحشر يكونون على هذه الأحوال الثلاثة، ومن فضل أمة محمد على من قبلها من الأمم أنهم أكثر أهل الجنة، فأهل الجنة يوم القيامة مائة وعشرون صفًّا، وأمة محمد هم ثمانون صفًّا من المائة والعشرين صفًّا. والله تعالى حرّم دخول أي أمة الجنة قبل أمة محمد صلى الله عليه وسلم، بعد أن يدخل الرسول صلى الله عليه وسلم يدخل الأنبياء الجنة ثم يدخل أمة محمد.

وروى النسائي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “يبعث الناس يوم القيامة حُفاةً عُراةً غُرْلًا” -أي بعضهم- فقالت عائشة: فكيف بالعورات؟ قال: ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)﴾ سورة عبس اهـ. وهذا الحديث مخصوص ليس على عمومه فإن الأنبياء والأولياء وسائر الصالحين لا يحشرون حفاة عراة. فقد نصّ البيهقي على أن بعض الناس يُحشر عاريًا وبعضهم يحشر في أكفانه وحُمل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: “يُبعث الميّتُ في ثيابه التي يموتُ فيها” رواه البيهقي، وقول معاذ بن جبل: “أحسنوا أكفان موتاكم فإن الموتى يحشرون في أكفانهم” رواه ابن  المنذر في الأوسط.

والله تعالى أعلم وأحكم.█