الحيرة التي أصابتني حينها جعلت سؤالًا وحيدًا يدور في بالي: “هل أعطيها؟ أم أتجاهلها؟” ليأتي القرار بعد دقيقتين أو ربما أقل.
جرت هذه الحادثة على متن الطائرة التي كانت تقلني من بلدي الحبيب لبنان إلى محل إقامتي في إحدى الدول العربية. وعلى خلاف العادة، لم تكن الطائرة مزدحمة بالركاب. فقررت، وبعد موافقة المضيفة، أن أغيّر مكاني كي لا أزعج الرجل الذي صادف مقعده بالقرب من مقعد ابنتي -ابنة الأعوام الثلاثة والمفعمة بالنشاط والحيوية-. فقد كنتُ على يقين أنها لن تركن لساعتين وعشرة دقائق -أي مدة الرحلة- ولن يسهل ضبطها. فهي تريد التحدث والتحرك والاستكشاف وتجربة التلفاز وجهاز التحكم وإغلاق الشباك ثم فتحه وإغلاقه مرارًا وتكرارًا واللعب بالطاولة والحزام وأي شىء تراه حولها. لذا، أحببت أن ابتعد وأجلس في مكان أضمن فيه الراحة لنفسي ولغيري، فاخترت لي ولابنتي المقعدين الشاغرين في آخر الطائرة تقريبًا قرب طفلة تجلس وحدها. ألقيت عليها التحية وجلست. كانت تراقبني وتنظر إليّ بانتباه وكأنني أوجه لها الحديث بدلًا من ابنتي. مظاهر التواضع على البنت الصغيرة كانت واضحة. فثيابها قديمة والألوان غير متناسقة بالمرة وشعرها غير مسرَّح وفي رجليها الصغيرتين حذاء واسع. نظرت حولي باحثة عن أسرتها أو مرافقيها. فرأيت امرأة تجلس على الجهة الأخرى وبجانبها طفلين، ثم ثلاثة أطفال آخرين يجلسون على المقاعد الثلاثة ورائي.
لم أحتج إلى كثير من التحليل والتفكير لأعلم أن هذه الأسرة هي من الأسر التي نجت من فظاعة الوضع في بلادها وهربت من أتون الحرب لتنعم بشىء من الأمن والأمان في بلد آخر تأمل أن يؤمن لها لجوءًا يحفظ، في أسوإ الأحوال هناك، سلامتها بإذن الله.
مرّت الدقائق الأولى بسلام ثم بدأت ابنتي بالتململ والتحرك، وكانت لم تتناول فطورها بعد، ففكرت أن أجلب لها من حقيبتي سندويشًا من أصل اثنتين كنت قد أعددتهما لها في المنزل. ولكنني قلت: “إن أعطيتها هذا الطعام، فماذا سيكون موقفي إن لم أعط الفتاة؟ هل أعطيها أم أتجاهل وجودها”؟
لست ممن يبخل في توزيع الطعام لكنني لم أكن قد جلبت إلا سندويشتين أعددتهما بعناية بالغة. فقد وضعت في كل سندويش أحسن ما يكون من الخبز والجبن والخيار. فالخبز جلبه والدي من محل يبيع الخبز الصحي المصنوع من القمح الكامل، وأما القمح فمزروع من قبل صاحب المحل لا من الطحين المسرب إلى أسواقنا. والخبز من نوع “المرقوق” الخالي من الخمائر غير الطبيعية والسكر المكرر، ومضاف إليه القليل من الملح البحري الخشن مما يجعله أغلى من الأصناف الأخرى في السوق. أما الجبنة فهي من نوع قشقوان الغنم الحار الفاخر الذي قصدت بلدة “شتورة” لأجله، حيث إن هذه الجبنة أشبه بالزبدة من دسامتها وأقرب إلى السمن في سهولة تقطيعها. أما الخيار، فهو من محل الخضروات العضوية الذي لا يضع إلا سمادًا عضويًّا ولا يرشها بالمبيدات الكيميائية.
فبعد كل هذا التفصيل الذي مرّ في بالي في ثوان… أتى السؤال: هل أعطيها السندويش أم أتجاهلها باعتبار أن طعامها سيحضر بعد قليل؟
ثم، وبلطف من الله، تذكرت قوله تعالى: ﴿لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ سورة آل عمران/92. فكيف لا أعطيها؟
مددت يدي وأعطيتُها سندويشًا وأعطيتُ ابنتي الأخرى. لم تشكرني، لم أكن أنتظر منها ذلك. بل، أردت أن أرى أنني ساويتها بابنتي وأحببت لها ما أحببته لابنتي.
مزّقت البنت الورقة عن السندويش بسرعة والتهمت لقمة واحدة دون حذر من أنّها قد لا ترغب ما في داخلها.
ابتلعت اللقمة الأولى ثم التهمت الثانية… ثم توقفت… لم تكمل. أعجبتها أم لا؟ بقيت أنظر إليها بطرف عيني. كانت البنت، بطلة المشهد، من أجمل مشاهد الإيثار التي رأيتها في حياتي. دارت عند إخوتها في المقعد الخلفي وقالت لهم: “كلوا هذه، تقاسموها فيما بينكم، لذيذة جدًّا”. فأخذوها ودارت البنت إلى الأمام مستوية.
ما أحلاكِ… وما أحلى خُلُقَكِ… وما أحسنَ تربيتك. مَنْ علَّمك الإيثار في هذا العمر الصغير؟ ماذا شعرتِ عندما فضّلت إخوتك عليك؟
تأثرتُ… خجلتُ من نفسي… وفرحتُ بصنيعها… أطعمتُ واحدة فأطعمَت هي ثلاثة… ترددتُ في إعطائها بعضًا من الطعام الذي أملك مثله، لا بل أفضل منه الكثير، فلم تتردد هي بإعطاء كل ما لديها.
أخيرًا، حطت الطائرة فسلّمتُ عليها ورحلتُ وبقيت معي من هذه الفتاة ذكرى جميلة ودرس قيم آمل أن أكون قد نجحت في نقله إليكم.█