اعتدنا أن نرى نصب أعيننا يوميًّا أمثلة عن الإيثار والبذل: فبعض الأمّهات يؤثرن أسرهنّ على أنفسهنّ ووقتهنّ ومالهنّ وراحتهنّ ومأكلهنّ ومشربهنّ. ونجد بعض الآباء يُؤْثِرون أسرهم على الأمور عينها. وكثير من المعلّمات أيضًا يواكبن تلميذًا محتاجًا إلى التقوية الأكاديمية في استراحتهن بل وأحيانًا عدّة طلاب. فالعديد من الأخوات الكُبْريات يؤثرن أخواتهنّ الصغيرات على أنفسهن، فنجدهن يساعدن أخواتهنّ الحديثات الخطى في الصعود على السلّم وغير ذلك من الأمثلة المتعدّدة…
صور – عزيزي القارئ- اعتدنا أن نراها بوفرة فيما مضى. أمّا اليوم كلّنا ندرك وللأسف أنّها تكاد تشرف على الزوال لينتشر نقيضها! ولن أخوض بالأمثلة والأسباب والنتائج فهي معروفة والكلّ في تداولها منهمك!
لذا دعنا نسرد الأهمّ: “كيف نغرس بذور البذل والإيثار في أولادنا الصغار لنجنيها ثمرًا في المستقبل فينعكس ذلك أملًا على الجميع”؟ عسى بذلك أن نسعف فننقذ ما تبقّى من آثار حضارة الإنسان المهشّمة ونحفّز تقدّمه الفكري والخلقي.
أ. خطى تتّبع أمي وأبي
أثبتت الحياة وما زالت أنّ الخلفية الأسرية لحضن وتربية الطفل بالمجمل ليست دائمًا بالصورة “المساعدة” للجميع. فمن ضمن الأمثلة الأسريّة التي تترك أحيانًا آثارًا غير ممدوحة تخرج عن سيطرة الأفراد نجد: الأم المطلّقة والأرملة والوالد الذي ماتت أو انفصلت عنه زوجته والأولاد اليتامى والأسرة المعنّفة وتلك المحطّمة وغيرها من المشاهد حيث يكون الإيثار غائب الملامح كلّيًّا تارة أو نادرًا تارة أخرى. فما السبيل لتربية طفل على الإيثار وَلَدَهُ زوجان حديثا الارتباط من خلفيّة أسريّة غير ملائمة؟
كلمة واحدة بها البداية: الاختيار! يعلم العديد منا أنّ الإنسان مختار تحت مشيئة الله. إذًا هو له اختيار في سلوكه حسنًا كان أو قبيحًا. لذا ورغم أنّ العديد من الأزواج جاؤوا من خلفيات أسريّة ركيكة نراهم يختارون الأصلح لأولادهم مع أنّ “الأصلح” لم يتوفّر ولم يعلّم لهم. فالاختيار إذًا من الصفات التي تتيح للإنسان وضع العطاء نصب عينيه ليكون هو قدوة لأولاده ومثالًا وإن عنى ذلك تغيير سلوكه المعتاد إلى الأحسن. حينها يراه أولاده يبذل أقصى ما يستطيع ويجاهد ليغرس الإيثار فيهم فيقلّدونه مكتسبين مع الأيام سلوكه ذاك.
ب. المفهوم
ليعلم أنّ العطاء والإيثار صفتان أساسيتان لنمو الشخصيّة السليمة وازدهارها. وليوضّح عند تربية الطفل أنّ مفهوم الإيثار عنده بأن يقوم بالعمل بلا مقابل ماديّ أي ليبذل جهده في هذا العمل لا ليحصل على مقابل ماديّ أو مدح الآخرين بل لأنه الشىء الذي يرضاه الله، وكذلك نبين له أنّ العمل لأجل مقابل ليس بأمر رديء لكن في بداية تعليمه لا نجمع بين الأمرين كي لا يتشوّش الولد. ولتنمية هذه الصفة -الإيثار- ليواكب الوالدان ابنهما من خلال عطائهما، فمثلًا إذا رغبا بالتصدق بثيابهما القديمة لذوي الفاقة جمعاها وطلبا منه مساعدتهما لتوضيبها. وكذلك إذا رغبا بالتطوع -بذلًا للمجهود والوقت والمال- فليأخذاه معهما تنمية لذاك الحسّ وإيضاحًا للمفهوم عنده.
ج. النفيس
ليوجّه الوالدان الولد إلى أنّ الإيثار يبدأ بالعزيز على النفس كالمال. المال سُمّي مالًا لأنّ النفس تميل إليه. فإذا ما مالت وحصّلته كان غاليًا عليها التبرع به لأعمال البرّ والإحسان لأن في ذلك فكرة “التخلّي” عمّا بذل من الجهد لتحصيله. لذا ليعوّد الأهل ولدهم رؤية التبرع بالأموال والثّمين من الجواهر والحلي وشبيهاتها منذ نعومة أظفاره. فمثلًا إذا ما أرادا التصدق أعطياه شيئًا من المتصدّق به وأرشداه إلى وضعه في صندوق التبرعات وعلّماه كذلك مشاركة أخته الصغيرة أو أخيه الأصغر بالحلوى والألعاب وأشياء أخرى وهكذا.
د. كلمات
قول اشتهر عند أحد العلماء المحدّثين المربّين دائمًا ما يطبّق بين جدران غرف الصف: “التكرار يساعد على الاستقرار”. ليردّد وليّ الأمر على مسمع ولده كلمات “البذل” و”الإيثار” و”التّسامح” و”العطاء” وغيرها من الصفات السامية ليعتادها. وكلّما ذكر تجارب أو قصصًا عن هذه الصفات ليلفت انتباهه إليها كان ذلك محفزًا لاكتسابه لها.
هـ. الإحاطة
إبقاء الطفل ضمن دائرة محفّزة على الإيثار -خالات وعمات وأصدقاء وجيران وغيرهم- من شأنه المساهمة في اكتسابه السلوك. صحيح أنّ المحيط غالبًا وخصوصًا في هذه الأيام لا يقدّم البيئة الحاضنة للأخلاق الحسنة لكن على الأهل أن يفعلوا ما بوسعهم لنمو طفلهم بشخصية غير سقيمة.
و. بحذر
نعم للإيثار لكن لا يمنع ذلك تعليم الطفل الحذر من اللئيم والبذل بحكمة فمن مهارات الإنسان الحياتيّة درء الأذى عن نفسه والآخرين.
عزيزي القارئ اكتساب الطفل للإيثار كبناء الجسر يبدأ بحجرة أي بالفرد ليصل إلى الأسرة فالمجتمع فالوطن فالعالم. هذا الهدف قراره بيدك فاعمل به ولتكن الخطوة الأولى في مكان يسمّى “بيتي”.█