عندما نتكلم عن التوجيه المهني نفتح الباب على مصراعيه على مشكلة يواجهها شبابنا بعد التخرّج من المدرسة… إنّها إشكاليّة اختيار الاختصاص الجامعي ومن قبلها التوجّه إلى التعليم الثانوي العام أو إلى التعليم المهني. فبعد صدور نتائج الامتحانات الرسميّة تبدأ حَيرة الطلاب: فبعد الشهادة المتوسطة يكون “الغربال” الأوّل إذ يتوجّه جزء منهم لإكمال تحصيلهم العلمي بفروع التعليم العام ويتوجّه البعض الآخر إلى التعليم المهني الأكثر تخصّصًا في المجال الذي يريد الطالب العمل فيه أو احترافَهُ في المستقبل. ولكن هل تخضع هذه الخيارات إلى معايير علميّة تتوافق مع حاجة سوق العمل وميول وقدرات الطالب؟ أو أنّها تخضع لـ “وَسم” المجتمع؟ سؤال تصعب الإجابة عنه خاصةً حين نراقب ونرى قلة الطلاب الذين يخطّطون مسبقًا لمستقبلهم الجامعي، وغالبًا تكون خياراتهم مبنيّة على كلمة أو رأي سمعه من هنا وهناك مثل اختيار الاختصاص لأجل لقب “دكتور” أو “مهندس” أو غيره… أو الابتعاد عن التعليم المهني لأنّه للأشخاص “أصحاب المعدّلات المتدنّية” أو الابتعاد حتى عن الفروع الأدبية بحجّة أنّ “قدراته تخوّله أكثر من ذلك” فيغلب التفكير الطبقي على هذه الآراء بدون أيّة قاعدة علميّة. في خضم هذا الواقع تُطرح الكثير من الأسئلة: ما هو واقع التعليم المهني في لبنان؟ وما هي الأسس العلمية التي ينبغي أن تحكم اختيار الطالب لتخصّصه؟
واقع القطاع المهني في لبنان
يعتبر التعليم المهني والتقني في لبنان متراجعًا بالنسبة للتعليم العام إلا أن الإحصاءات والأرقام تشير إلى أن هذا القطاع شهد بعد الحرب الأهليّة نموًا من حيث عدد المدارس والطلاب، وخصوصًا في القطاع الرسمي. فقد ارتفع عدد تلامذة التعليم المهني في القطاع الرسمي من 7451 تلميذًا عام 1990 إلى 33692 عام 2004-2005. وخلال العام الدراسي الأخير 2004-2005 شكل تلامذة مرحلة التعليم المهني والتقني الرسمي نحو 7.3% من إجمالي عدد الملتحقين بكافة قطاعات ومراحل التعليم الرسمي، مقابل نحو 4.5% عام 1999-2000.
كذلك ارتفع عدد معلمي وإداريي قطاع التعليم المهني والتقني الرسمي من حوالي 1303 معلم وإداري عام 1990-1991، إلى 9620 عام 2004-2005. وخلال هذه الفترة الممتدة بين عامي 1990 و2004، بلغ معدّل الزيادة في عدد المعلمين نحو 638% مقابل معدّل زيادة في عدد التلامذة يقارب 352%، أي أنّ الزيادة في عدد المعلمين تجاوزت الزيادة المسجّلة في عدد التلامذة.
أما بالنسبة لعدد المدارس المهنية الرسمية فقد ارتفع من 28 مدرسة عام 1990-1991 إلى 76 مدرسة عام 2004-2005.
وقد ترافقت هذه الزيادة بخطّة وضعتها وزارة التربية لتنمية هذا القطاع خاصّةً لأنّه يؤمّن تدريب الطالب على المهارات الملائمة لسوق العمل. فمن أوجه الاختلاف بين التعليم العام والتعليم المهني أنّ هذا الأخير يدرّب الطالب على مهارات سوق العمل من المرحلة الثانوية وبالتالي فإن النمو الاقتصادي يحتاج في أي بلد إلى تعليم مهني وتقني ملائم لحاجات السوق.
كذلك في الأفق خطط لتطوير القطاع أكثر فأكثر عبر إعادة تحديد أهداف التعليم المهني والتقني بهدف توثيق علاقته مع متطلبات الاقتصاد، وعبر إدخال هذا التعليم بفعالية أكبر في مرحلتي التعليم الثانوي والتعليم العالي.
إلا أنّ من أهمّ الخطوات لتعزيز هذا القطاع هي إدخاله بالتوجيه المهني للطلاب، فما هو واقع هذا التوجيه؟ وكيف يُوجّه الطالب لاختيار مهنة المستقبل؟
واقع التوجيه المهني لاختيار الاختصاصات
يعاني لبنان بحسب آراء متخصّصين بهذا المجال من غياب التوجيه المهني الرسمي الذي يشكل حاجة مهمّة جدًّا للطلاب. فالكثير منهم تجدهم قد أنهوا المرحلة الثانويّة وهم في ضياع لأنهم يجهلون أيّ اختصاص يختارون. فهذا اختيار ينبغي أن يُخطّط له جيّدًا بدل أنّ يترك للأشهر الأخيرة قبل بداية الفصل فيتسجّل الطالب بالاختصاص الذي يتيسّر له ولو لم يتلاءم مع سوق العمل فيتخرّج الطالب ليكتشف مثلًا أنّ السوق يفيض باختصاصه وتبدأ معاناته مع البطالة. فمن هذا المنطلق يربط الباحثون نسبة البطالة في مجتمعٍ ما بفعالية التوجيه المهني فيه.
وقد أظهرت الدراسات أنّ نسبة البطالة وصلت إلى أكثر من 16% مع نهاية العام 2011. فأكثر من 30 ألف طالب يتخرّجون سنويًّا من المعاهد والجامعات في لبنان، ولا يجد أغلبهم وظيفة ملائمة في سوق العمل العاجز عن استيعاب الكم الهائل من الخريجين نظرًا لعدم التجانس بين مهاراتهم ومتطلباته.
في خضم هذه الأزمات المترابطة قد يتساءل الطالب: ما هي الوظائف المطلوبة؟ كيف أختار الاختصاص المناسب؟
نحو اختيار الاختصاص على أسس ثابتة
إنّ من فعالية التوجيه المهني التركيز على المهنة قبل الاختصاص وعندما يقرّر الطالب نوع العمل الذي يريده في المستقبل يمكنه وبسهولة تحديد الاختصاص المناسب الذي يتلاءم مع هذا العمل. وهذا العمل ينبغي أن يتقاطع مع حاجة المجتمع وقدرات وشخصيّة الطالب… وقد كثرت الاختبارات التي توجز للطالب -بعد إجابته على سلسلة أسئلة- الاختصاص أو الاختصاصات التي تتلاءم مع شخصيّته. فيحلّل بدوره النتائج إذ هو يعرف من نفسه، إلى حدّ ما، المجالات التي يبرع فيها فيختار منها ما يلبّي حاجة سوق العمل.
ولكن من ينبغي أن يتولّى التوجيه المهني؟ هل هي الجامعات؟ أم المدارس؟ أم الأهل؟ أم غيرهم…
كل طرف من هذه الأطراف له دور في التوجيه المهني للطلاب. وخصوصًا الأهل ينبغي لهم أن يساندوا أولادهم دون الضغط عليهم لاختيار الاختصاص. ففي كثير من الأحيان يرافق الأهل الطلاب إلى المنتديات التوجيهيّة، ويقومون هم بطرح الأسئلة بدل أولادهم وهم من يقررون الاختصاصات. ولا شك أنّ رأي الأهل مهمّ جدًا وهو يقدّم نصيحة للأبناء بناءً على تجربة الآباء ولكن الأزمنة تتغيّر وقدرات الطالب قد لا يعرف حقيقتها الأهل، فليساعدوه على اكتشافها واختيار الاختصاص الذي يخوّله نفع المجتمع بأقصى ما لديه.
من جهة أخرى قد نجد طلاب المدارس في المحاضرات التوجيهية ومعارض التوظيف يبحثون عن الاختصاصات ذات السنوات الدراسية الأقصر لكي يدخلوا بشكل سريع إلى سوق العمل. كذلك يبحثون عن الاختصاصات التي تفضي إلى مهن ذات رواتب مرتفعة. فيكون ذلك محور أسئلتهم في المحاضرات التوجيهيّة. لا ننفي أنّ هذه من النقاط التي يتعلّق بها اختيار المهنة ولكن الراتب يعتمد أيضًا على الأداء وعلى التدريبات التي يخضع لها الشخص خلال دراسته وبعدها لينتقل بعد ذلك إلى طلب الوظيفة. إلا أنّ رفع سقف التوقّعات لدى الكثير من الباحثين عن عمل أو حتى اختصاص ينقلب ضررًا عليهم في التوظيف.
فتجنّبًا لكلّ ذلك ينبغي للمؤسسات من جامعات وشركات وغيرهم من أفراد المجتمع المحيط بالطالب تقديم الدراسات التي تظهر حاجات سوق العمل وإظهار العوامل المتعلّقة بهذا الاختيار لمساعدته على حسن التخطيط وحسن الاختيار.█