“لم يعد لنا حاجة إليك أيها الرجل العجوز…“
كلمات لم تزل في مسمَعي الحاج إسماعيل… لم تفارق أذنيه رغم مرور زمن طويل على سماعها… يتذكرها وتجري دموعه من عينيه حسرة على ذكريات مرّت… الأمر ليس سهلًا…
معاناة الأب من تنكّر أولاده له ليس أمرًا سهلًا.. وخاصة أنه أكرم أبناءه ولم يبخل عليهم بأي أمنية حلموا بها منذ طفولتهم… لم يكن يتوقع أن يُقابل بعد هذا بقول أحد أولاده له… لا تأت إلينا… نحن نزورك عندما يكون عندنا متسع من الوقت… ولم يأت هذا المتسع من الوقت منذ شهور…
الحاج إسماعيل في السبعين من عمره… قبل عدة سنوات ترك الشركة التي كان يعمل فيها… وكان معه مبلغ من المال لا بأس به… جمعه خلال سنوات عمله… بعد فترة خطر له أن يوزع هذا المال على أولاده… فمنهم من يريد أن يؤسّس تجارة… وآخر عليه دين من ثمن شقته… وآخر يريد الزواج… آثر أبناءه على نفسه ووزّع عليهم حصيلة عمل سنين طويلة ليفرح بتفريج الهم عن قلوبهم… وأبقى لنفسه شيئًا بسيطًا ليصرف منه على نفسه وزوجته… لكن ما لم يكن في الحسبان هو مرض زوجته ودخولها المستشفى… فأنفق ما بقي معه عليها حتى لم يبق معه شىء… وتوقع من أولاده الدعم… هو ظن أنهم لن يبخلوا عليه… هو أكرمهم كثيرًا في الماضي… لكن النكران مرض يصيب النفوس ويسحب الحياء منها… فيتعامل الواحد منهم بما لا يتوقعه أصحاب القلوب الطيبة…
وضاقت الأحوال بالحاج إسماعيل… لم يعد يدري ماذا يفعل… بحث عن عمل… لكن مَنْ سيُوظف رجلًا في مثل عمره… كان الأمر صعبًا جدًّا عليه… إلى أن عرض عليه جاره صاحب المحل المجاور لبيته أن يوظفه عنده لقاء مبلغ بسيط يكفيه وزوجته لسد نفقات طعامهما وشرابهما…
ما زال الحاج إسماعيل يتذكر كلام ابنه… لم نعد بحاجة إليك أيها الرجل العجوز… لكن رغم ألمه وبكائه ما زال يدعو لهم بالخير وأن يصلح الله أحوالهم وأن يصرف عنهم كل سوء… وأن يكون أبناؤهم أفضل منهم وأن لا يعاملوهم مثلما عاملوا هم أباهم…
في حياة الناس قصص كثيرة وحكايات متنوعة… لو دقّق الواحد منا فيها لاستفاد عبرًا كثيرة، جعلنا الله من المحسنين.
فادي شاب في الثلاثينات… خطب ابنة عمه منذ عدة سنوات… يعمل في إحدى المؤسسسات ويجمع ما تيسر له من المال لتأسيس منزل الزوجية مع رفيقة دربه… هو أصغر إخوته… توفيت والدته وهو ابن عشر سنين… حزن كثيرًا لفراقها… كان لا ينام حتى تأتي والدته لتمسك بيده فيشعر بالدفء والحنان ويغفو على كلماتها الطيبة… وكان فقدها صدمة كبيرة له… وكانت أمنيته كل يوم وهو يأوي إلى فراشه أن يرى أمه ولو في المنام…
وتزوّج والده… وكانت ليلى زوجة الأب متسلّطة… كان يسمعها كثيرًا تصرخ في وجه أبيه وتطالبه بالمال… وفي بداية كل شهر كانت تأخذ كل راتبه بحجة مصروف البيت وجمع المال لشراء شقة بدل السكن بالإيجار… وكان والده لا يخالف رأيها ويعطيها كل ما يملك ولا يبقي لنفسه إلا القليل لمصروفه الشخصي…
وبعد عدة سنوات تركت زوجة الأب البيت دون أن تخبر أحدًا… رحلت وأخذت معها كل ما جمعه الأب خلال تلك السنين الطويلة… بحثوا عنها كثيرًا ولم يجدوا لها أثرًا… حتى صديقاتها وأهلها لا يعرفون عنها شيئًا…
ولم تكن هذه نهاية القصة… بل جاء بعض أصدقاء الأب وأبرزوا له إيصالات بأموال كثيرة قالوا إن زوجته استدانتها منهم وقالت إن زوجها سيسددها بعد فترة من الزمن…
كانت صدمة كبيرة للوالد… لا يدري ماذا يفعل… ذهب كل ماله… وفوق كل ذلك ديون متراكمة يطالب أصحابها سدادها….
تألّم فادي كثيرًا مما حصل… حزن لحزن أبيه… وتذكر أمه التي كانت تدعم والده في كل المواقف الصعبة… وقرر شيئًا في نفسه… هو يستطيع تأجيل زواجه… خطيبته إنسانة طيبة وافقت معه على قراره… أن يُؤْثر أباه على نفسه… وأن يعطيه المال الذي جمعه لموضوع الزواج حتى يستطيع الوالد سداد الديون التي صار مُطالبًا بها…
طبائع البشر تختلف… منهم الصالح الذي يجد سعادة أحبابه سببًا لسعادته فلا يبخل عليهم بما يحتاجون إليه… ومنهم الفاسد المفسد… الذي لا يهمه شأن من حوله… بل يستغلهم لأغراضه الشخصية، لكن في نهاية الأمر… هناك حساب… هناك ثواب وعقاب… البعض يُعجل لهم العذاب في الدنيا… والأكثر يؤخر عذابهم إلى يوم تُكشف فيه كل الأمور… فيجازى المحسن ما يستحق من ثواب… وتكون النكسة والحسرة لمن عصى الله عز وجل ومات ولم يتب من ذنوبه ولم يعفُ الله عنه… ليت الناس يفكرون في يوم الحساب.. ربما كان بعضهم ترك ما هو فيه وتاب وسلك دربًا جديدًا من الخير والرشاد.█