إن الواحد منا يواجه في رحلة عمره العديد من المواقف التي تعرضه إلى إساءة أو أذى ممن يحب أحيانًا وممن لا يحب أحيانًا أخرى، وتختلف الناس بالتعاطي مع الجرح أو الإساءة، وما اختلافهم غالبًا إلا ثمرة خبرة ووعي من نتاج ما مرُّوا به أو سمعوا عنه من تجارب من سبقهم أو عايشهم. 

فالجرح لحظة وقوعه تفتح معه عدة أبواب تؤدي إلى مسالك مختلفة، فالبعض يدخل باب الغضب مع أبغض أنواع ردود الفعل العمياء، فينساق من حيث يدري أو لا يدري إلى لغة الشتائم والسفاهة، وينحدر فيها البعض حتى يصلوا إلى قعرها فلا يحفظون حرمة، ولا يتركون سترًا أو سِرًا إلا وهتكوه، وهنا بدلًا من العمل على تضميد الجرح الذي حصل ومداواته تكثر الجراح وتتراكم حتى تبنى السدود وتكون القطيعة، والبعض الآخر يدخل باب العداء وذم من يخاصم أينما حلّ، فتراه يغتابه في موضع، ويقع في النميمة في موضع آخر حتى يحرّض الناس عليه وينفرهم منه، وُيزين له الشيطان أفعاله الخبيثة هذه تحت عنوان الانتقام، وبالمحصلة تقع القطيعة بينهما أيضًا. أما الباب الثالث فمفتاحه الصمت فالصبر، فالفطن إن شعر في نفسه الغضب يحجم ولا يتكلم حتى لا يقول ما يندم عليه لاحقًا أو يوقعه في ما لا يُرضي الله تعالى، ويصبر على أذى من آذاه ليس ضعفًا منه إنما كرمًا وعفوًا، فقد رُوي أن سيدنا زين العابدين جاءه رجل يومًا وهو مع أصحابه في المسجد فما ترك شيئًا إلا وقاله له وسيدنا زين العابدين ساكت، فانصرف الرجل، فلما كان الليل جاء زين العابدين إلى باب الرجل فقال له: يا أخي إن كنت صادقًا فيما قلت لي فغفر الله لي، وإن كنت كاذبًا فغفر الله لك. وولّى سيدنا زين العابدين، فتبعه الرجل فالتزمه من خلفه وبكى حتى أشفق زين العابدين عليه، فتفكر يا أخي برفعة وسمو ومكارم أخلاق سيدنا زين العابدين الذي بادر من أساء إليه بالتسامح والدعاء له بالمغفرة.

وليس غريبًا أن نجد في سلوك سيدنا زين العابدين كظم الغيظ والعفو عن الناس بل والإحسان إليهم أيضًا، فهو من آل بيت النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، وقد رُوي أن السيدة عائشة رضي الله عنها حينما سُئلت عن خُلُق رسول الله قالت: “ولا يجزي بالسيئة مثلها بل يعفو ويصفح”. ومن سلك درب العفو والصفح والإحسان ظهر في خصاله غنى النفس والجود والإيثار بإذن الله، ولنا في رسول الله وصحابته الكرام نِعْم القدوة في غنى النفس والإيثار، فعن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: أهدي لرجل مِن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة، فقال: إنَّ أخي فلانًا وعياله أحوج إلى هذا منَّا. فبعث به إليهم، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداولها أهل سبعة أبيات حتى رجعت إلى الأوَّل، وما إيثار رسول الله لأصحابه وإيثارهم له وإيثار بعضهم لبعض إلا مصداق قول الله تعالى في سورة الحشر: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)﴾.

ختامًا أرجو الله أن نكون من أهل الصفح والإيثار فعسى الله أن يُنجينا بهما من النار.█