أحمَدُ اللهَ ربَّ العالمينَ وأُصلي وأُسلِّم على أشرفِ المرسَلِين وحبيبِ ربِّ العالمين سيدِنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ الطيِّبينَ الطاهِرِين. 

أما بعدُ فإنَّ نبيَّنا الكريمَ صلى الله عليه وسلّم يقولُ: «خَصْلتانِ ما إِنْ تَجَمَّلَ الخلائقُ بمثلِهِما حُسْنُ الخُلُقِ وطُولُ الصَّمْتِ» رواهُ ابنُ أبي الدُّنيا القُرشيُّ في كتابِ  «الصمت».

إنَّ حُسْنَ الخُلُقِ وطُولَ الصَّمْتِ خصلتانِ فيهما خيرٌ كبيرٌ للنَّاس، والخَصْلةُ الأُولى التي حضَّ عليها الرسولُ صلّى اللهُ عليه وسلّم في هذا الحديثِ هي حسنُ الخُلُقِ وهو عبارةٌ عن ثلاثةِ أمورٍ: كَفُّ الأذَى عنِ النَّاسِ، وتحمُّلُ أَذَى النَّاسِ، وأنْ يَعْمَلَ الشخصُ المعروفَ والإحسانَ مع الذِي يعرِفُ له معروفَهُ وإحسانَهُ ومعَ الذي لا يعرِفُ له ذلك.

إنَّ الذي ينالُ حُسْنَ الخُلُقِ يَنالُ مَقامًا عاليًا ودرجةً عاليةً عندَ اللهِ تبارَكَ وتعالى، لأنَّ في حُسْنِ الخلُقِ مخالفَةً شديدَةً للنفسِ والهوى، فقدْ يَبلُغُ الرجُلُ المؤمِنُ بحُسنِ خُلقِهِ درجةَ القائِمِ الصائِمِ، أي درجَةَ المؤمِنِ الذي لا يترُكُ القيامَ في جوفِ الليلِ للعبادَةِ ولا يترُكُ صيامَ النفلِ.

قالَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ المُؤمِنَ ليُدْرِكُ بحُسْنِ خُلُقِهِ درجةَ الصائِمِ القائِمِ» رواهُ أبو داود، وقالَ: «ما مِنْ شىءٍ أثقَلُ في ميزانِ المُؤمِنِ يومَ القيامَةِ من حُسْنِ الخُلُقِ، وإنَّ اللهَ يُبغِضُ الفاحشَ البَذِيَّ» رواهُ الترمذيُ، والبَذيُّ هو الذي يتكلَّمُ بالفُحْشِ ورديءِ الكَلام.

إنَّ صَاحبَ الخُلُقِ الحَسَنِ يُلزِمُ نفسَهُ ويَقْهَرُها في بذلِ المعروفِ أي الإحسانِ للنَّاسِ أي يُحسِنُ إليهم بالقولِ والفعلِ، ويَكُفُّ أذاهُ عنهُم ويتحمَّلُ الأذَى منهم. وبذلُ الإحسانِ إلى الناسِ هو أن تَبذُلَ إحسانَكَ من غيرِ شرطِ أن تجعلَ إحسانَكَ في مُقابلِ إحسانٍ يَصِلُ إليكَ من غيرِك، أي أن تُقهِرَ نفسَكَ على أنْ تُحسِنَ إلى النَّاسِ إن أحْسَنُوا إليكَ وإن لم يُحسِنُوا إليك، أي تعمَلَ المعروفَ معَ الذي يعرِفُ لك ويُقابِلُكَ بالمعروفِ ومع الذي لا يعرِفُ لك معروفَكَ ولا يُقابِلُكَ بالمعروفِ بل قد يُسِيءُ إليكَ في مقابلِ ذلك.

إنَّ حُسْنَ الخُلُقِ هو صِفةُ أنبياءِ اللهِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلام، فقد كانوا صلواتُ الله وسلامُه عليهم أجمعِينَ يُحسِنُونَ إلى مَنْ يستَجِيبُ لهم في دعوتِهم إلى دينِ الإسلامِ وإلى مَنْ لا يستجِيبُ لهم، فقد كانوا عليهم السلامُ يُحِبُّونَ الخيرَ الذي يُحِبُّهُ الله تعالى للنَّاس، دأْبُهم في الدَّعوةِ إلى دينِ اللهِ تعالى الصبرُ الجميلُ وتحمُّلُ الأذى ممَنْ لا يستجِيبُ لدعوتِهِم ويُقابِلُهُم بالأذى، لقد كانُوا يَدْعونَ أقوامَهُم إلى طاعةِ الله تبارَك وتعالى بالحكمَةِ والموعِظَةِ الحسنةِ مع أنَّ كثيرًا من أقوامِهِم كانُوا يقابِلُونهم بالإيذاءِ والسَّبِ والافتراءِ عليهِم.

والمؤمِنُ الذي يريدُ الرُقِيَّ في الكمالِ والدَّرجاتِ العاليةِ عندَ الله تعالى يَسْعَى ليكونَ حسنَ الخُلُقِ معَ النَّاسِ، يَصْبِرُ على أذاهُم مع بذلهِ الإحسانَ والمعروفَ إليهم، ويكونُ في سيرتِه معَ النَّاسِ كالشجرةِ المثمرَةِ التي تُعطِي ثمرَها لمن يَقطِفُ منها ولا يَقطَعُ منها غُصنًا، ولمن يضرِبُها بالعصا ويقطَعُ أغصانَها.

وللمؤمنينَ في رسولِ الله محمَّدٍ عليهِ الصلاةُ والسلامُ قدوةٌ حسنةٌ، فقد كانَ من سيرتهِ مع قومهِ أنّه كانَ يعفُو عمَّن ظلَمَهُ، ويُعطِي من حرَمَه، ويَصِلُّ من قطَعَهُ، ويُحسِنُ إلى من أساءَ إليه.

أمَّا الخصلةُ الثانيةُ التي حَضَّ عليها نبيُّنا العظيمُ في الحديثِ الشريفِ الذي ذكرناهُ في البدايةِ فهو طولُ الصَّمْتِ، أي تقليلُ الكلامِ إلا مِنْ خيرٍ، فإنَّ طولَ الصَّمْتِ مَطلُوبٌ محبوبٌ عند الله تبارك وتعالى. وعلى الإنسانِ العاقِلِ أن يُكثِرَ الصَّمْتَ ولا يتكلَّمَ إلا بما فيهِ خيرٌ مما يَنفَعُهُ في مَعيشَتهِ أو بما ينفعُهُ في آخرَتِهِ مِنْ ذكرِ الله تعالى وقراءَةِ القُرءانِ ونحوِ ذلك من سائرِ الحَسَنَاتِ.

قالَ حبيبُنا محمَّدٌ صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ بكُلِّ تسبيحَةٍ صَدَقَةً وكلِّ تكبيرةٍ صدقةً وكلِّ تحميدَةٍ صدقةً وكلِّ تهليلةٍ صدقةً وأمرٌ بالمعروفِ صدقَةٌ ونهيٌ عن منكَرٍ صدقةٌ» رواهُ مسلِمٌ، وفي الحديثِ أيضًا: «لا تُكْثِرُوا الكَلامَ بغيرِ ذِكرِ اللهِ فإنَّ كثرَةَ الكلامِ بغيرِ ذِكْرِ الله تعالى قَسْوةٌ للقَلْبِ» رواهُ الترمذيُ.

لقدْ أنعَمَ اللهُ تبارَكَ وتعالى علَى عبادِهِ بنِعَمٍ لا يُحْصِيها إلا هو، وَمِنْ هذه النِعَمِ نعمَةُ اللسانِ، والله سبحانَهُ وتعالى جعَلَ اللسانَ للإنسانِ ليُعبِّرَ به عن حاجاتِهِ التي تهمُّهُ لتحصيلِ منافِعِ ومَصالحِ دينِهِ ودُنياهُ، هذا اللسانُ نعمَةٌ عظيمَةٌ مِنَ اللهِ تعالى على عبادهِ ليحصِّلُوا به مصالحَ دينهِم ومصالحَ آخِرتِهم أي ليستعْمِلُوهُ فيما ينفعُهُم ولا يَضُرُّهم. فمن استعمَلَ هذا اللسانَ فيما ينفعُهُ ولا يَضُرُهُ فقد سَلِمَ، وأمَّا من استعمَلَهُ فيما نهاهُ اللهُ عنه فقد أهلَكَ نفسَهُ ولم يَشْكُرْ ربَّهُ وخالِقَهُ على هذه النِّعمَةِ العظيمَةِ.

ومَنْ لم يعوِّدْ نفسَهُ الكَفَّ عن الكلامِ السيّءِ فإنّهُ ينزلِقُ إلى المهاوِي الـمُهلكَةِ والمزالِقِ الـمُردِيةِ التي تُردِيهِ إلى نارِ جهنَّم، فقد ثبَتَ عن الصَّحابي الجليلِ عبدِ الله بنِ مسعودٍ رضيَ الله عنه أنَّهُ أخذَ لسانَهُ وخاطبَهُ: «يا لسانُ قُلْ خيرًا تَغنَمْ، واسكُتْ عن شرٍّ تَسْلَمْ من قبلِ أن تندَمَ إنّي سمِعْتُ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم يقولُ: «أكثرُ خطايا ابنِ آدمَ من لسانِهِ» رواهُ الطبرانيُ، ومن خطايا وذنوبِ اللسانِ الكفرُ وكبائرُ الذنوبِ.

فإذا أطلقَ الإنسانُ لسانَهُ فيما يُوجِبُ سُخْطَ اللهِ تبارَكَ وتعالى بسببِ ألفاظِ وكلماتِ الحرامِ من غيرِ مُبالاةٍ، فقد ينزِلُ في الآخرةِ بهذه الكلمةِ المحرمةِ إلى نهايَةِ قعرِ جهنَّم وذلك إذا كانتْ هذه الكلمَةُ مِنْ نوعِ الكفرِ الذي هو أكبرُ الذنوبِ عندَ اللهِ تعالى، لذلك يقولُ النبيُّ الأعظمُ صلّى الله عليه وسلَم: «إنَّ العبدَ ليتكلَّمُ بالكلمَةِ لا يَرَى بها بأسًا، يَهْوي بها في النَّارِ سبعِينَ خريفًا» أي مسافةَ سبعينَ سنةً في النُّزُولِ وهذا المكانُ هو قعرُ جهنَّم، وقد جعلَهُ الله تبارك وتعالى خاصًّا بالكفَّارِ.

ومِنَ الأشياءِ التي ينبغِي حفظُ اللسانِ عنها والحَذَرُ منها حذرًا شديدًا لكثرَةِ وقوعِها بين الناسِ الغيبةُ وهي ذِكرُكَ أخاك المسلِمَ بما فيه بما يَكرَهُ في خَلْفِه.

فعن أبي هُريرةَ رضيَ الله عنه أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قالَ: «أتدرُونَ ما الغِيبةُ»؟ قالوا: الله ورسولُه أعلَم، قالَ عليه الصلاةُ والسَّلام: «ذِكْرُك أخاكَ بما يكْرَه» قيل: أفرأيتَ إنْ كانَ في أخي ما أقولُ؟ قال: «إنْ كانَ فيه ما تقولُ فقد اغتبتَهُ وإن لم يكنْ فيه فقدْ بَهَتَّهُ». فالغيبةُ هي أن تَذْكُرَ مسلِمًا بما فيه بما يكرَه لو سَمِعَ ذلك، أي هو متصِفٌ بهذا الشىء، ولكنَّهُ يكرَهُ أن تَذْكُرَهُ به في خلفِهِ، ثمّ أفهمَهُم الرسولُ صلى الله عليه وسلم أنّهُ إذا ذُكِر المسلِمُ بمَا ليسَ فيه ممّا يَكرَهُ يكونُ ذلكَ بُهتانًا وهو أشَدُّ إثمًا لأنهُ اجتمَعَ فيه سَيئتان، سَيّئةُ أنّه ذَكَرَ أخاهُ المسلِمَ بما يكرهُ، وسيّئةُ ذِكرهِ بما ليسَ فيه ممَّا يكرَهُ.

وهذا الحكمُ عامٌ في سائرِ الأحوالِ التي يُذْكَرُ فيها المسلمُ بما يكرَهُ في خلفِهِ ممّا فيهِ إلاّ في حالاتٍ استثناها الشّرعُ وأباحَ فيها ذكرَ المسلِمِ بما يكرهُهُ، فتِلكَ الحالاتُ التي استثنَاها الشّرعُ لا إثمَ فيها وإن كانَ يُطْلَقُ عليها الغيبةُ من حيثُ اللغةِ، أما من حيثُ التحريمُ الشرعيُّ فلا تَدْخُلْ بالغيبةِ المحرّمَةِ، ومن تلك الحالاتِ التحذيرُ ممن يَغُشُّونَ النَّاسَ ويَضُرُّونَهم.

نسأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يحفَظَ أَلْسِنَتَنا مِنَ الغِيْبةِ وسائرِ المحرماتِ ويحفَظَ أفئِدَتَنا مِنَ الرياءِ وجوارِحَنا منَ الزيغِ والزلَلِ وإلى اللهِ المرجِعُ والمآلُ وعليهِ التُّكلان.█