الـحـمد لله رب العالـمين له النعمة وله الفضل وله الثناء الـحسن صلوات الله البر الرحيـم والـملائكة الـمقربين على سيدنا مـحـمد وعلى جميع إخوانه من النبيين والمرسلين وسلام الله عليهم أجمعين. 

أما بعد فإن هذه الدنيا هي دار العمل والآخرة هي دار الحساب والجزاء، فعلى الإنسان أن يحاسب نفسه قبل أن يحاسب وأن يزن أعماله قبل أن توزن عليه. وكلامنا في هذا المقال عن حساب الله لعباده وعن الميزان والثواب والعقاب، فإن هذه الأمور أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم أنها تكون في الآخرة. 

الحساب

إن الحساب يوم القيامة حقٌّ حاصلٌ بلا ريب، فيجب الإيمان به، قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)سورة التكاثر. والحساب هو عرض أعمال العباد عليهم، ويكون الحساب بتكليم الله تعالى للعباد جميعهم مؤمنهم وكافرهم، فيسمعون كلام الله الذاتي الذي ليس حرفًا ولا صوتًا ولا لغة فيفهمون منه السؤال عمّا فعلوا بالنعم التي أعطاهم الله إيّاها، فيُسرّ المؤمن التقي ولا يُسرّ الكافر لأنه لا حسنة له في الآخرة، بل يكاد يغشاه الـموت من شدة ضيقه، فقد ورد في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره: “ما منكم من أحد إلا سيكلّمه ربّه ليس بينه وبينه ترجمان“.

ومما يدل على الحساب أيضًا قوله عليه الصلاة والسلام: “إن الله يُدني المؤمن منه يوم القيامة حتى يضعَ كنفه عليه فيستره من الناس فيقول: أتعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول: نعم يا رب فيقول: أتعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول: نعم يا رب حتى إذا قرّره بذنوبه وظن في نفسه أنه قد استوجب قال: قد سترتها عليك من الناس وإني أغفرها لك اليوم” رواه ابن حبان.

ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام: “إن الله يُدني المؤمنَ” أي يقرّبه قُربَ كرامة لا قرب مسافة فإنه سبحانه يتنزّه عن ذلك، ومعنى “حتى يضع كنفه عليه” أي يحفظه ويستره عن أهل الموقف كيلا يفتضح.

وأما الكفار والمنافقون فينادى عليهم على رؤوس الخلائق: هؤلاء الذين كذَبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين. والمراد بالظالمين الكفار لأن الكفر هو أعظم الظلم وما سواه بالنسبة له كأنه ليس بظلم.

ويكون الحساب يوم القيامة كما تقدم بسماع كلام الله الذي ليس حرفًا ولا صوتًا، يسمع البشر والجن المسلمون وغير المسلمين ذلك الكلام فيفهمون عن أيّ شىء يسألهم ثم ينتهي من حسابهم في ساعة أي في وقت قصير وذلك معنى قول الله تعالى: ﴿وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)سورة الأنعام، لأنه لو كان يكلّمهم بالحرف والصوت ما كان أسرع الحاسبين لأنه يحاسب الجن والإنس، والبشر كثيرون جدًّا ويأجوج ومأجوج أكثر من سائر البشر عددًا والجن أكثر من البشر عددًا وأطول أعمارًا بكثير. ولا يكون الله تعالى في مكان عندما يسمعون كلامه لا في الأرض المبدلة ولا في غيرها من الأماكن لأنه سبحانه موجود بلا مكان، كان ولا مكان وهو على ما عليه كان.

وأما ما يقوله بعض الناس عن يوم القيامة إنه يوم الوقوف بين يدي الله فلا يريدون به إثبات المكان لله ولا أنّ الله يكون في الأرض والخلق حوله لأن الله تعالى منزه عن التحيّز في المكان وعن الانتقال والحركة والسكون.

وأيضًا يعطى كل إنسان يوم القيامة الكتاب الذي كتبه له الملكان، فأما المؤمن فيأخذه بيمينه فإن كان تقيًّا قال ما أخبر الله عنه في القرءان الكريم: ﴿هَآؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيهْ (19) إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) سورة الحاقة.

وروى الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْسورة الإسراء/17، قال: “يُدعى أحدُهم فيُعطى كتابه بيمينه ويُمدّ له في جسمه ستون ذراعًا ويُبَيَّضُ وجهُه ويُجعلُ على رأسه تاجٌ من لؤلؤ يتلألأ، فينطلقُ إلى أصحابه فيرونه من بعيد فيقولون: اللهم بارك لنا في هذا حتى يأتيهم فيقول: أبشروا فإن لكل رجل منكم مثل هذا، وأما الكافر فيعطى كتابه بشماله مسودًا وجهُه ويزاد في جسمه ستون ذراعًا على صورة آدم ويُلبَسُ تاجًا من نار فيراه أصحابه فيقولون: اللهم أخزه فيقول: أبعدَكُم الله فإن لكل رجل منكم مثلَ هذا”.

الميزان

يجب الإيمان بأن الأعمال توزن يوم القيامة ودليله قوله تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِسورة الأنبياء/74، وقوله تعالى: ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّسورة الأعراف/8.

والميزان حقٌ وهو جسمٌ محسوسٌ كميزان الدنيا من حيث تركيبه وإن كان أكبر من حيث حجمه، له قصبةٌ وعمودٌ وكفتان كفةٌ للحسنات وكفةٌ للسيئات، توزن به الأعمال يوم القيامة ليظهر من يستحق دخول الجنة ومن يستحق عذاب النار، والذي يتولّى وزنها جبريل وميكائيل عليهما السلام. وأما الذي يوزن يومئذ فقال بعض العلماء الأعمال نفسها يحوّلها الله أجسامًا فتوزن، وقال آخرون إنما هو الصحائف التي كُتب عليها الحسنات والسيئات فتُوضع صحائف الحسنات في كفة وصحائف السيئات في كفة، فمن رجحت حسناته على سيئاته فهو من أهل النجاة والفوز، قال تعالى: ﴿فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (7) سورة القارعة أي من رجحت كفة حسناته على كفة سيئاته فهو في عيشة راضية لأنه يدخل الجنة بلا عذاب حيث العيشة الـمرضية.

ومن تساوت حسناته وسيئاته فهو من أهل النجاة أيضًا ولكنه أقل رتبة من الطبقة الأولى وأرفع من الثالثة، وهؤلاء هم أهل الأعراف يمكثون مدة على سور الجنة ثم يدخلونها.

وأما من رجحت سيئاته على حسناته فهو مستحق للعذاب وهو تحت مشيئة الله إن شاء عذّبه مدة في النار ثم أدخله الجنة وإن شاء غفر له فأدخله الجنة بغير عذاب.

وأما الكافر فترجح كفة سيئاته لا غير لأنه لا حسنات له في الآخرة لأنه أطعم بحسناته في الدنيا كما صح عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “فأما الكافر فيُطعَم بحسناته في الدنيا فإذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يُعطى بها خيرًا” رواه مسلم وابن حبان واللفظ له.

قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9)سورة القارعة، بـأن رجــحـت ســيـئـاتـه عـلـى حـسـنـاتـه ولم يعف الله عنه أو لم تكن له حسناتٌ بالمرة وهو الكافر فمصيره إلى جهنم، وسميت هاوية لأنه يهوي فيها مع بُعد قعرها، فأما الكافر فيصل إلى القعر، وأما الـمسلم الذي يعذب فيها فلا يصل إليه، ولا بد أن يخرج منها بعد مدة بسبب إيمانه كما جاء في الحديث الشريف: “يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من إيمان” رواه البخاري.

الثواب والعقاب

الثواب الأُخروي عند أهل الحق بحق الطائعين ليس واجبًا على الله إذ لا يجب على الله شىء ولا يُكرِهه على ذلك أحدٌ وإنما هو فضلٌ منه وكرم. والثواب هو الجزاء الذي يُجزى به المؤمن مما يسرّه في الآخرة على ما عمل من الطاعات في الدنيا.

والعقاب لا يجب على الله أيضًا إيقاعه على العصاة في الآخرة وإنما عقابه لمن يشاء منهم هو عدلٌ منه وهو ما يسوء العبد يوم القيامة جزاء على ما ارتكبه من المعاصي وهو على قسمين أكبر وأصغر، فالعقاب الأكبر هو دخول النار أي جهنم، والعقاب الأصغر ما سوى ذلك من العذاب وهو دون عذاب النار كأذى حرّ الشمس يوم القيامة فإنها تقترب من الناس يوم القيامة وتسلّط على الكفار فيعرقون حتى يصل عرق أحدهم إلى فيه أي فمه، ولا يتجاوز عرق هذا الشخص إلى شخص آخر بل يقتصر عليه وتبلغ شدة ذلك عليهم حتى يقول الكافر من شدة ما يقاسي منها: “رب أرحني ولو إلى النار”.

وأما المؤمنون الأتقياء فيكونون تلك المدة تحت ظل العرش، أخرج البخاري وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “سبعة يُظلّهم الله في ظله يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه، الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبُه مُعَلَّق في المساجد، ورجلان تحابّا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تَصَدّق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه” ومعنى قوله “يُظلّهم الله في ظله” أي في ظلّ عرشه.

وأما أهل الكبائر من المؤمنين فيعاقبون بحرّ الشمس لكن عقابًا أقل مما يقاسيه الكفار.

والله تعالى أعلم وأحكم.█