في سنة سبع وعشرين عزل عمرو بن العاص عن خراج مصر، واستعمل عليه عبد الله بن سعد بن أبي سرح.
ولما ولي عبد الله بن سعد أرسل إلى عثمان في غزو إفريقية، والاستكثار من الجموع عليها وفتحها، فاستشار عثمان من عنده من الصحابة، فأشار أكثرهم بذلك، فجهز إليه العساكر من المدينة، وفيهم جماعة من أعيان الصحابة، منهم عبد الله بن عباس وغيره، فسار بهم عبد الله بن سعد إلى إفريقية. فلما وصلوا إلى برقة لقيهم عقبة بن نافع فيمن معه من المسلمين، وكانوا بها، وساروا إلى طرابلس الغرب ومنها إلى إفريقية.
عشرون ألفًا في مواجهة مائة وعشرين ألفًا
وكان ملك إفريقية يوم ذاك اسمه جرجير، وكان ملكه من طرابلس إلى طنجة، وكان هرقل ملك الروم قد ولاه إفريقية، فهو يحمل إليه الخراج كل سنة. فلما بلغه خبر المسلمين تجهز وجمع العساكر وأهل البلاد، فبلغ عسكره مائة ألف وعشرين ألف فارس وجيش المسلمين عشرون ألفًا فقط، والتقى هو والمسلمون بمكان بينه وبين مدينة سبيطلة يوم وليلة، وهذه المدينة كانت ذلك الوقت دار الملك، فأقاموا هناك يقتتلون كل يوم، وراسله عبد الله ابن سعد يدعوه إلى الإسلام أو الجزية، فامتنع منهما وتكبر عن قبول أحدهما.
وانقطع خبر المسلمين عن عثمان، فسيّر عبد الله بن الزبير في جماعة إليهم ليأتيه بأخبارهم، فسار مُجِدًّا حتى وصل إليهم وأقام معهم، ولما وصل كثر الصياح والتكبير في المسلمين، فسأل جرجير عن الخبر فقيل قد أتاهم عسكر، فاغتاظ غيظًا شديدًا وقال لجنده: من قتل عبد الله بن سعد فله مائة ألف دينار وأزوّجه ابنتي، فقال عبد الله بن سعد: مَن أتاني برأس جرجير أعطيته مائة ألف وزوجته ابنته واستعملته على بلاده.
خطة محكمة
ثم إن عبد الله بن الزبير قال لعبد الله ابن سعد: إن أمرنا يطول مع هؤلاء، وهم في أمداد متصلة وبلاد هي لهم، ونحن منقطعون عن المسلمين وبلادهم، وقد رأيت أن نترك غدًا جماعة صالحة من أبطال المسلمين في خيامهم متأهبين، ونقاتل نحن الروم في باقي العسكر إلى أن يضجروا ويملوا، فإذا رجعوا إلى خيامهم ورجع المسلمون ركب من كان في الخيام من المسلمين، ولم يشهدوا القتال وهم مستريحون، ونقصدهم على غرة، فلعل الله ينصرنا عليهم، فأحضر جماعة من أعيان الصحابة واستشارهم فوافقوه على ذلك.
فلما كان الغد فعل عبد الله ما اتفقوا عليه، وأقام جميع شجعان المسلمين في خيامهم، وخيولهم عندهم مسرجة، ومضى الباقون فقاتلوا الروم إلى الظهر قتالًا شديدًا. فلما أذن بالظهر هم الروم بالانصراف على العادة، فلم يمكنهم ابن الزبير وألح عليهم بالقتال حتى أتعبهم، ثم عاد عنهم هو والمسلمون، فكل من الطائفتين ألقى سلاحه ووقع تعبًا، فعند ذلك أخذ عبد الله بن الزبير من كان مستريحًا من شجعان المسلمين، وقصد الروم، فلم يشعروا بهم حتى خالطوهم، وحملوا حملة رجل واحد وكبروا، فلم يتمكن الروم من لبس سلاحهم، حتى غشيهم المسلمون وقتل جرجير، قتله ابن الزبير، وانهزم الروم، وقتل منهم مقتلة عظيمة.
وأخذت ابنة الملك جرجير سبية. فأخذ عبد الله بن سعد يسأل جنده عن قاتل جرجير وكان إذ ذاك عبد الله بن الزبير لكنه ما أبرز نفسه، ما قال: أنا القاتل لجرجير بل أخفى نفسه، لأنه لم يعمل ذلك للوصول إلى هذه البنت أو الفخر، فقال لهم القائد قائد المسلمين: إني أعزم على أيكم قتل جرجير إلا وأبرز نفسه فلم يبرز نفسه، ثم قال: للبنت تعرفين قاتل أبيك؟ قالت: نعم، فصارت تتصفح الوجوه فلما رأت عبد الله بن الزبير صرخت هذا هو.
والله تعالى أعلم وأحكم.█