أكتب هذه الكلمات القلائل وقد أوقدت النار وتأجّج الفحم في قطاري الصغير، قطار الذكريات الخاص بي، وإذا أردتم هو عالمي الخاص الذي ألجأ إليه.
هو قطاري الصغير الذي كلما شعرت بالضيق ومرارة الحياة والأيام التي نعيشها، ركبته وأججت النار في موقدته وأطلقت نفيره الصامت حتى لا يلاحظ أحد ممن حولي أنني ذاهب.
يأخذني قطاري العزيز إلى تلك الأيام الحلوة، أيام الطفولة الأولى وقتئذ لم تكن علينا مسؤولية، وقتئذ لم يكن مطلوبًا منا أي شىء. وقتئذ لم نكن مطالبين سوى أن نعيش… ببساطة.
ببساطة، هكذا كانت الحياة، كنا نفرح حين يسمح لنا أهلنا بالسهر ساعة إضافية في العطلة الصيفية، بالطبع لم نكن نستهلك ربع ساعة منها بسبب تعبنا الشديد من اللعب طوال النهار. ببساطة، كنا ننتظر قدوم العطلة الصيفية لتناول المثلجات حتى إنني لا زلت أذكر كيف كانت أمي تحدّد لنا تاريخًا محددًا “من تاريخ كذا إلى تاريخ كذا يمكنكم تناول المثلجات”. ببساطة، كنا نقفز من الفرح حين يتصل جدي مساء ليقول لأمي: “تروحوا بكرة عالبحر”؟ وكنا ننظر إلى أمي نظرة رجاء وترجي لتوافق وإن وافقت فلا ننام ليلتها بانتظار الغد.
ببساطة لم نكن مطالبين سوى أن ندرس لننجح، وما أحيلاها لحظة النجاح حيث كنا ننتظر لحظة الوصول إلى المنزل لاستلام الهدية التي تنتظرنا. واللحظة الأجمل منها هي تلك اللحظة التي كنا نقف فيها على المسرح لأداء دور في إحدى مسرحيات آخر السنة وكنا نبحث عن أهلنا بين الجمهور وعندما نجدهم نبتسم ونلوح لهم غير آبهين بالمسرحية ولا بالجمهور ولا بالتصوير.
ببساطة كنا ننتظر نهار العيد وليلة العيد وحلو العيد والنوم بجانب ملابس العيد لكي نستيقظ مع أول ساعات نهار العيد على صوت التكبيرات ونلبس الملابس الجديدة ونستعجل أهلنا للذهاب إلى بيت الجد والجدة حيث الأسرة الكريمة مجتمعة. ما أجمل بساطة تلك الأيام.
ببساطة لم تكن هناك مسؤوليات ولا تعب. كنا نشعر أن دروسنا وامتحاناتنا هي أكثر ما قد نعاني منه في حياتنا لكن هيهات ما أبسط امتحانات المدرسة أمام امتحانات الحياة. كنا ننتظر أن نبلغ عمرًا معينًا لكي يشتري لنا آباؤنا هواتف محمولة إذ كنا نشعر حينها أننا كبرنا. لكنني اليوم أريد أن أتخلى عن هاتفي، أريد أن أصبح خارج التغطية ليوم أو يومين، أريد أن أصبح “offline” لمدة أسبوع. آه ليت الطفولة تعود يومًا.
ببساطة كنا نتطلع أن نكبر يومًا ما لنقود سيارة حقيقية غير تلك التي في مدينة الملاهي فقد كنا نجلس خلف المقود أحيانًا ريثما ينتهي أهلنا من وضع إخوتنا الصغار في المقعد الخلفي ونمثل أننا نقود ونصدر أصوات محركات السيارة المضحكة من أفواهنا. لكنني اليوم أتمنى لو أنني لم أتعلم قيادة السيارة ولا اقتربت من هذا الوحش ولا صرت في غابة الطرقات، فالحياة على الطرقات وفي واقعنا أخطر بكثير مما كنا نظن والقيادة لم تكن بهذه البساطة.
ببساطة كل واحد منا يتمنى أن يجد محطة قطار الذكريات والأماني الخاص به فالحياة أصبحت حقًّا صعبة وصعوبتها تزداد يومًا بعد يوم، وما نراه حولنا من مشاكل ومصائب ومآس ينبئنا أن الحياة لن تستعيد بساطتها حتى بالنسبة لأولادنا وللأجيال الجديدة، فالجيل الجديد يعي منذ صغره كيف يشاهد نشرة الأخبار ويدري كيف يستعمل الأجهزة الإلكترونية منذ نعومة أظفاره. يحزنني أن أطفال العرب في الغالب لم يعودوا يعرفون بساطة الحياة ولا بساطة الطفولة، بل صاروا يعرفون أصوات القنابل والصواريخ، وصار ابن السنوات العشر قادرًا على التفريق بين صوت الرشاش الآلي وصوت المفرقعات. هذا للأسف واقعنا… لعلنا نجد يومًا ما محطة قطار أحلامنا المُفرحة لعلّ أحوالنا تتحسن.█
إعداد محمد حلاوي